حين تهمس المرأة ويصمت تيك توك

الخميس، 29 مايو 2025 03:35 م
حين تهمس المرأة ويصمت تيك توك
عبد الحليم محمود

في غرفة هادئة، تقف مرآة لا تنطق، لكنها تسأل بلا صوت: «من أنت حقًا؟» ذلك الذي يضحك أمام شاشة الهاتف، ويبكي في الخفاء، ويتظاهر بالسعادة أمام الكاميرا، ثم يغيب صوته في صمت لا يُسمع.
 
اليوم صار من الصعب الفصل بين الإنسان وصورته الرقمية، بين القلب الحقيقي وعدد الإعجابات، بين الصوت الصادق وصخب التيك توك. الحياة تُقاس بالمشاهدات، والمشاعر تُحسب بالأرقام، والصدق ينتظر ختم "المشاركة" ليُعترف به، كأننا مخلوقات تُقاس بعدد اللايكات، لا بعدد الأفكار أو الأحلام.
 
في زاوية شارع من شوارع القاهرة، فتاة تدخن الشيشة وتلتقط صورًا، كأنها تحاول تثبيت وجودها في عالم سريع الزوال. ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل انعكاس لرغبة عميقة في أن يُسمع صوتها، وألا تُنسى وسط الضجيج. لم تعد تخشى المراقبة، بل تخشى أن تُمحى. حتى القهوة التي تشربها باتت تحتاج إلى فلتر.. فلتر مزاجي رقمي، كي تناسب ذوق الفيديوهات القصيرة.
 
تذكرون إيما بوفاري، المرأة التي حلمت بحياة أجمل فانتهت مأساة!.. نحن نحمل اليوم أحلامًا أكبر من واقعنا، نلتف حول صورنا وأقنعتنا الرقمية. وكافكا كان على حق حين قال: «احذر أن توقظ إنسانًا نائمًا، فقد يكون يحلم بما لا يستطيع أن يعيشه في يقظته.» فكيف بإنسان متصل على الدوام، لا يفرّق بين النوم واليقظة ما دامت الشاشة مشتعلة؟.
 
يقولون إنها حرب ثقافية بين الصين وأمريكا، لكن الحرب الحقيقية تدور في جيوبنا، على شاشاتنا، وفي أذهاننا. الصين تصدّر التطبيق، وأمريكا تحاربه، ونحن في المنتصف: نستهلك، نشارك، نذوب بإرادتنا. كأننا نرقص على أنغام لم نخترها، حسب إيقاع لا نسمعه إلا عندما تنطفئ الشاشات.
 
ولعلّ أهم ما يؤكد هذه المعضلة، تقريرٌ عالمي حديث صادر عن "مؤسسة الصحة النفسية العالمية" (World Mental Health Foundation)، أشار إلى أن أكثر من 60% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يعانون من اضطرابات نفسية مرتبطة بالتعرض المستمر للشاشات والضغط الرقمي. التقرير كشف أن الشعور بالوحدة والقلق يتفاقم مع كل نقرة إعجاب أو تعليق، مما يضاعف الحاجة إلى إعادة التوازن بين "الصورة" و"الحقيقة".
 
لكن المشكلة أعمق من الأرقام. المرأة الجديدة تفرغنا من الداخل، ونحن نبتسم في الخارج. تربك هويتنا وتعيد تشكيلها كل يوم، ونحن نظن أننا نعيش، نشبه أشخاصًا يقفون أمام مرآة سحرية لا تعكس سوى نسخة ملوّنة ومثالية، بينما الحقيقة في الخلف تمشي حافية القدمين تنتظر.
 
لكن، وسط هذه الفوضى، هناك بصيص أمل. المجتمع لا ينهار، بل يبحث عن طريقه، عن معنى جديد يناسب زمننا المتغير. المرأة قد لا تواسي، لكنها تعكس الحقيقة. وربما، حين يصمت التيك توك، ونصغي لأنفسنا، نجد ما هو أعمق، ما يستحق أن نحتفظ به بعيدًا عن أضواء الزيف.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة