التاريخ يولد من رحم المعاناة
السبت، 20 سبتمبر 2025 04:29 م
عبد الحليم محمود
التاريخ لا يكتبه أهل النعيم، ولا يخلّد أصحاب القصور، وإنما يولد حيث الظلام والآلام والمحن. كل ابتلاء يظنه صاحبه موتًا، فإذا به حياة جديدة، وكل جرح يُحسب نهاية، فإذا به بداية أخرى.
طه حسين، طفل ضرير في ريف مصر. لا يرى الشمس، لكنه يحفظ دفئها في قلبه. يتعثر في الأزهر، ثم يسافر إلى باريس، ثم يعود ليفتح للناس أبواب النور. قال: «إنما أنا كفيف، ولكني لم أُحرم البصيرة.» لو لم يعرف ظلامه، لما أضاء للناس عقولهم. ولو لم يُحرم البصر، لما صار عميد الأدب العربي وصوتًا يطالب بحق كل إنسان في أن يتعلم ويرى.
ونابليون بونابرت، قصير القامة غريبًا في وطنٍ لا يعترف به. لكنه كان أطول من زمانه. وقف على الخرائط كأنه يقف على الدنيا. لم تكن عظمته من قامته، بل من معاناته. فقد علّمنا أن كل جرح، وكل محنة، يحمل في طياته سلّمًا نحو العظمة، وأن إرادته الصلبة جعلته يعيد رسم أوروبا ويترك أثرًا خالدًا في التاريخ العسكري والسياسي.
وأحمد عرابي، فلاح يقف أمام الخديوي، وجنود السلطة من حوله. قلبه أكبر من كل السيوف. يقول كلمته التي خلدها التاريخ: «لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا.» ثم يُنفى بعيدًا عن أرضه. لم ينتصر في المعركة، لكنه انتصر في الذاكرة. فالتاريخ لا يخلّده الملوك، بل من صنعوا أثرًا خالدًا بالحق والكرامة .
وأنور السادات، شاب يطرق أبواب السجون مرة بعد أخرى. مطاردة، جوع، تشرد. لكن في تلك الجدران الباردة تبلورت روحه. كتب في البحث عن الذات:《لم أُهزم قط، وإنما كنت أتعلم من كل تجربة》خرج من السجن لا ليبحث عن حريته، بل ليصنع حرية أمة بأكملها. من وراء الأسلاك إلى قصر الرئاسة، إلى عبور القناة، إلى لحظة صارت رمزًا لعزة مصر كلها.
وعلي عزت بيجوفيتش، شاب مسلم في قلب أوروبا، يلقونه في غياهب السجن. قالوا له: انتهيت. لكنه كتب هناك كتابه الخالد هروبي إلى الحرية. لم يهرب من الجدران، بل هرب إلى داخله، إلى حرية لا يملكها السجّان. وهناك كتب: «الحرية الحقيقية هي التي تبدأ من الداخل.» ثم خرج من السجن لا ليكون سجينًا سابقًا، بل ليكون رئيس دولة. أي عظمة أكبر من أن ينتقل إنسان من الزنزانة إلى القصر الجمهوري؟
ومصر، عام 1967 سقطت الأحلام. صمتت المدن، انطفأت الأغاني، ومشى الناس في الشوارع كأنهم بلا أرواح. كانت النكسة جرحًا مفتوحًا في صدر الأمة. لكن من قلب الجرح خرج صوت آخر. جندي يعبر القناة، يرفع العلم، يهتف للنصر. عام 1973 لم يكن نصرًا فقط، بل ولادة جديدة لأمة بأكملها. ولادة من رحم النكسة ومن دم الجرح، ومن نار الانكسار.
المعاناة ليست لعنة، بل هدية متنكرة لا تُعطى إلا لمن يستحقها. هي التي تصنع القادة من بين البشر، وتصنع الخلود من بين الأمم. لو لم يعش طه حسين العمى، ما أنار عقولنا. ولو لم يشعر نابليون بالغربة والالم ، ما ملك نصف العالم. ولو لم يُنفَ عرابي، ما بقيت كلمته في الذاكرة. ولو لم يُسجن السادات، ما عبرت مصر خط بارليف. ولو لم يكتب بيجوفيتش خلف القضبان، ما صار رئيسًا لأمة.
التاريخ لا يُكتب بالراحة، بل بالجرح. ولا يخلّده من عاشوا في النعيم، بل من صاغتهم المعاناة. إنها لا تُنهي الحكاية… بل تبدأها. بداية الفرد وبداية الأمة. والسؤال يبقى لنا جميعًا: أي معاناة ستصنع تاريخنا نحن؟