لماذا جنوب سيناء طارد للإرهاب والشمال جاذب؟

السبت، 24 مارس 2018 10:00 م
لماذا جنوب سيناء طارد للإرهاب والشمال جاذب؟
الجيش المصرى
هشام السروجى

 

تمر الذكرى التاسعة والعشرون لاسترداد مدينة طابا من إسرائيل، ورفع العلم المصرى عليها، لكن الذكرى هذا العام تأتى فى إطار من الخصوصية، حيث تتزامن الذكرى مع المعركة الفاصلة التى تدور رحاها فى شمال سيناء، للقضاء على الإرهاب وحاضنته الجغرافية.. ليُطرح تساؤل مثير من وجهة نظرى، وهو لماذا أصبحت محافظة جنوب سيناء بيئة طاردة للإرهاب؟ فى حين أن محافظة شمال سيناء شهدت مراحل ولادة ونمو وتوحش العديد من التنظيمات الإرهابية المسلحة، بداية من دخول الفكر السلفى الجهادى منتصف السبعينيات، مرورا بتدشين «التوحيد والجهاد» نهاية التسعينيات، حتى وصلنا إلى مرحلة التوحش مع تنظيم ولاية سيناء المُبايع لتنظيم داعش.

التنوع الثقافى فى جنوب سيناء نتيجة لاختلاط أبنائه مباشرة وبصورة يومية بأبناء العديد من الثقافات الأكثر انفتاحا وتقدما كان عاملا حاسما فى تغيير سلوكيات الأفراد، من حيث قبول الآخر وصعوبة الاعتقاد بإباحة قتله

قبل محاولات الرد على السؤال، وجب التنويه أن الحديث عن البيئة الحاضنة لا يعنى الاتهام المطلق لأبناء سيناء من قبائل وعشائر وعائلات، نظرا لحساسية كل لفظ يلفظ وكيفية تقبله من المجتمع من جهة، والتعامل معه من جانب مؤسسات الدولة من جهة أخرى.
 
فقدان الهوية والشعور بالاغتراب نتيجة العزلة التى فرضتها الدولة على مقومات المجتمعات البدوية منذ تحرير سيناء فى حرب أكتوبر وحتى اندلاع ثورة 25 يناير، كان المحرك الأساسى لأن تبحث التركيبة الاجتماعية فى شمال سيناء عن هوية بديلة غير تلك التى تضاءلت حتى أوشكت على الاندثار، فكان البديل الجاهز هو الهوية الإسلامية الأصولية التى تميل إليها بطبيعتها المجتمعات الصحراوية الجافة، فى الوقت الذى كانت تتغير فيه تركيبة الهوية المجتمعية فى جنوب سيناء من القبلية المنعزلة إلى ناحية مجتمع الحضر، نتيجة عوامل عديدة منها نزوح آلاف العاملين فى المجال السياحى من جميع محافظات مصر، إضافة لاختلاطهم مع الثقافات الأجنبية.
 

الفرق بين الأحداث والبيئة الحاضنة 

هناك فرق بين أن ما شهدته مدن جنوب سيناء من عمليات إرهابية، كانت قاعدة انطلاقها من شمال سيناء ومحيطها المتماس مع الوسط، وبين أن تكون مقرا لتنظيم أو جماعة تنتهج العنف سبيلا للوصول إلى الله، فلم تذكر أى وثيقة رسمية أو يعلن تنظيم أن مدن جنوب سيناء قاعدة عمليات له، بعكس الوضع فى الشمال، ولعل السبب فى ذلك يعود إلى عدة مرتكزات ومعطيات، يأتى فى مقدمتها العوامل الاقتصادية.
 
العمليات التى شهدتها محافظة جنوب سيناء فى عامى 2004 و2005، والتى نفذها تنظيم التوحيد والجهاد، لم تكن قاعدة انطلاقها من الجنوب، بل كانت قادمة من الشريط الحدودى بشمال سيناء، وهذا لا يعنى أن الجنوب منطقة تتخذها التنظيمات مناطق تمركز، كذلك العمليات التى شهدتها الدول الغربية تؤكد نفس السياق. 
 
 

عوامل اقتصادية جاذبة وطاردة للإرهاب

خلص عدد من الدراسات إلى أن الفقر هو أحد أهم أسباب تنامى الأفكار العدائية لدى المجتمع، ووفقا لرؤية عالم الاقتصاد الأمريكى «غارى بيكر» الحاصل على جائزة نوبل، فإن الأفراد الذين يحصلون على أجور أقل وجودة تعليم ضعيفة، وأكد على نفس المعنى محافظ البنك المركزى طارق عامر، فى تصريحاته، بأن أحد أسباب تفشى الإرهاب فى العالم هو «الفقر»، لافتا إلى أن مصر تبذل جهودا لمكافحته من خلال برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى يهدف إلى إصلاح البنية الأساسية للاقتصاد وخلق فرص عمل جنبا إلى جنب مع برامج قوية للحماية الاجتماعية.
 
فى نفس الإطار يقول الدكتور عمار حسن فى مقالٍ له بعنوان (الاستبداد والفقر والجهل والتعصب.. بعض أسباب تصنع الإرهاب) بتاريخ الخميس 9 أكتوبر 2014، فالفقر والبطالة والتهميش والظلم الاجتماعى هى أسباب لتهيئة البيئة أمام التطرف الدينى وإنتاج الإرهابيين، فمَن يعانون من هذا الوضع الصعب هم صيد سهل للإرهابيين، كما أن التنظيمات الدينية المتطرفة، أو حتى من لها مشروع سياسى يوظف الدين كأيديولوجيا، استغلت انسحاب الدول من تقديم الخدمات الاجتماعية لكثير من الشرائح والطبقات الاجتماعية، واستغلت التمييز الاقتصادى والاجتماعى، لبناء شبكة من المنتفعين التى شكل جانب منها فيما بعد، بيئة منتجة للتطرف وحاضنة للإرهاب.. كما تستغل التنظيمات الإرهابية الظروف الحياتية الصعبة لبعض الشباب وتعرض عليهم نقودا مقابل الانضمام إليها أو القيام بعمليات إرهابية لصالحها (1)
 
وهو ما يفسر بشكل إجمالى أحد أسباب توافر فرص التواجد المتطرف فى الشمال، حيث ارتبط الفرد فى الجنوب بالمعادلة الاقتصادية للدولة المتمثلة فى السياحة، وأدرك أن حماية مكتسبات الدولة السياحية  تصب فى مصلحته الفردية، فتكونت لديه عقيدة ارتباط وثيقة بينه وبين مؤسسات الدولة الاقتصادية، فعلم أن ضرب السياحة يعنى تأثر مصادر دخله، فتحول من مجرد مواطن يسعى على لقمة العيش إلى جندى فى ميدان المعركة، يقوم بدور مجتمعى مقاوم لأى فكر متطرف يتعارض ومصالحه الشخصية.
 
على الجانب الآخر لعب ضعف الموارد الاقتصادية فى الشمال دورا عكسيا، فازدهرت السوق السوداء لتهريب الأفارقة إلى الأراضى المحتلة، والسلع إلى قطاع غزة عبر الأنفاق، وتجارة المخدرات بديلا جبريا عن الاقتصاد الشرعى، وكانت هذه العناصر بمثابة اللبنة الأولى فى تغيير سلوكيات المسالمة إلى العنف والكفر بالمجتمع ومن ثم تكفيره.
 
 

الهوية والتنوع الثقافى 

التنوع الثقافى فى جنوب سيناء نتيجة لاختلاط أبنائه مباشرة وبصورة يومية، بأبناء العديد من الثقافات الأكثر انفتاحا وتقدما، كان عاملا حاسما فى تغيير سلوكيات الأفراد، من حيث قبول الآخر وصعوبة الاعتقاد بإباحة قتله وشيطنته، بالطبع لا يمكن القبول بأنها قاعدة ثابتة، فالمجتمعات العربية التى تعيش فى الغرب أفرزت معتنقين للفكر المتطرف، إلا أنهم فى النهاية شواذ عن القاعدة لا يمثلون سوى 1 % من إجمالى المجتمعات المهاجرة، لكن وإن غاب قبول الآخر، فإن عوامل أخرى تمثل جدار حماية، منها ما سبق ذكره ومنها ما سيأتى.
 
ولعل قلة تعداد أبناء الجنوب الواصل إلى ما يقرب من 180 ألف نسمة، والطبيعة القبلية المترابطة، كانتا لهما الأثر الأكبر فى غياب البيئة المجتمعية الحاضنة لأصحاب الفكر المتطرف، بل إن الحالات التى اعتنقت هذا الفكر كانت نسبة لا تذكر، لم تستطع التعايش مع أفكارها فى الجنوب وهاجرت إلى الشمال، بعكس الأفراد القادمين من الشمال إلى الجنوب للعمل فى السياحة.. من هنا نجد أن عامل انجذاب أهل الجنوب تجاه ثقافة الآخر، تحكمت فيه عدة دوافع، منها المصلحة الاقتصادية الذاتية التى تقوم على تقديم الخدمة السياحية والخدمية، فى سبيل تحقيق إشباع الاحتياجات والرغبات اليومية.
 
 

العزلة الاجتماعية والتمييز 

لا يتوقف الأمر عند الاختلاط مع الجنسيات الأخرى، بل إن العزلة الداخلية مع أبناء المحافظات الأخرى، كان سببا جوهريا فى القضاء على الشعور بالتمييز والتهميش الذى عانى منه سكان شمال سيناء، حيث يرى عالم النفس الاجتماعى «كارتريت وزاندر» أن الأفراد لا ينجذبون إلا لجماعة تمثل لهم مصدرا لإشباع حاجاتهم، ومن أهم عوامل جذب الأفراد إلى الجماعة هى تأكيد الإحساس بالهوية لدى الفرد، فالإنسان منا ينضم إلى الجماعة حين يشعر بأنها تحقق رغباته، فإذا تحقق ذلك استمر الفرد فى الجماعة.
 
وكذلك انجذب مع أبناء المحافظات الأخرى التى أكدت لديهم الشعور بالهوية المصرية، بخلاف صراع الهويات الذى ضرب المجتمع فى شمال سيناء، فأفرز جيلا باحثا عن هوية مفتقدة نتيجة العزلة الاجتماعية والتمييز على مدار أربعة عقود، ليصبح فريسة سهلة للهوية الدينية المزيفة – التطرف - التى أشبعت لديه رغبة الشعور بالذات من خلال الاعتقاد بأفكار تعطيه مساحة من التفرد عن أقرانه، حتى ولو كان التفرد منهجيته الأساسية هى القتل والعنف، ومن هنا يبرز مفهوم الانتماء الذى يتولد حين يكون الفرد فاعلا فى جماعته ومرتبطا بها، أو منعزل عنها، فيبدأ البحث عن جماعة أخرى يجد وسطها الفاعلية وتحقيق وجوده.
 
مفهوم الانتماء الاجتماعى واحد من أهم المفاهيم المركزية التى تحدد طبيعة علاقة الفرد بالجماعة، يقابله على الضد تماما مفهوم الاغتراب أو العزلة الذى يعنى الابتعاد النفسى للفرد عن ذاته وعن جماعته، وسواء ابتعد الفرد عن جماعته أو غادرها إلى جماعة أخرى، فهو فى الحالتين إنما يفقد انتماءه لجماعته من جانب، ويواجه برفض الجماعة الأخرى له من جانب آخر لاختلاف عاداته وقيمه ونمط شخصيته وخبراته، ما يسبب غربته من ناحية وعدم انتمائه لمجتمعه من ناحية أخرى.
 
هناك حقيقة أن البشر كائنات اجتماعية، فالبشر قادرون على تقديم كل منهم للآخر أعظم مسرات الحياة وأفراحها وكذلك أحزانها العميقة، كما أن بإمكانهم إعطاء نوع من التعاطف والتأكيد والحماية من الأخطار، وبالتالى فإن حاجة الفرد للآخرين تكمن فى مساعدته على حل مشاكله وإرضاء حاجاته التى لا يستطيع حلها وإرضاءها بمجهوده الخاص، فيشعر بالأمن ويزيد احترامه لنفسه.
 
وتبرز أهمية الانتماء على المستوى الاجتماعى فهو العمود الفقرى للجماعة بدونه تفقد تماسكها، وتماسك الجماعة هو انجذاب الأعضاء لها، والذى يتوقف على مدى تحقيق الجماعة لحاجات أفرادها، فطالما أن الجماعة تحقق حاجات الفرد، فإن بإمكانها أن تؤثر على أفكاره وسلوكه عن طريق تلك الفوائد التى يحصل عليها من جراء انتمائه لها والمتمثلة بالآتى: 
 
تحقيق الرغبات الشخصية والاجتماعية التى يعجز الفرد عادة عن تحقيقها بمفرده.
 
الشعور بالانتمائية إلى جماعة تتقبله ويتقبلها، فيشعر بالأمن والطمأنينة.
 
يمكن تغيير سلوك الفرد عن طريق الجماعة، فكل جماعة لها معاييرها وقيمها التى يتحتم على الفرد المنتمى إليها اكتسابها. (2)
 
لهذا ونتيجة العزلة التى فرضتها سياسة الدولة بالتمييز والتهميش حتى 2010 تجاه المجتمع فى شمال سيناء، إلى جانب تردى الأوضاع الاقتصادية، بحث أبناؤه عن جماعة أخرى يستطيع وسطها إشباع احتياجاته الاجتماعية، فكان البديل فى الانتماء للجماعة الدينية المتطرفة، بعكس المجتمع فى جنوب سيناء الذى اجتمعت أهدافه وسبل إشباع احتياجاته الاجتماعية فى إطار واحد، فتماسكت أطرافه واتفق ضمنيا على أن الاندماج مع الثقافات الواردة من الخارج يتناسب وطبيعته الجديدة، المنخلعة تدريجيا عن المفهوم التقليدى للقبيلة.
 
الواقع يتحدث عن أن القضاء على القوة المسلحة لتنظيم «ولاية سيناء» الإرهابى أصبح على مرمى البصر، لكن القضاء على الفكرة والأسباب التى تغذيها بالعنصر البشرى، أمر يستحق الوقوف مطولا أمام مرآة الحقيقة والتدبر فى جذوره، وتحمل كل طرف مسئولياته الكاملة والبدء فى رسم خطة شاملة قوامها إعادة تأهيل الفرد، من خلال هدم الهويات المتطرفة وبناء هوية سلمية تعايشية تقضى على العنصرية والتهميش والشيطنة التى عانى منها المجتمع فى شمال سيناء، عبر برنامج اقتصادى ونفسى وفكرى، يكون بمثابة حائط صد أمام موجات عنف متوقعة من التنظيمات المتطرفة، وأعتقد بشدة أن الجيل الرابع القادم من رحمها، سيكون أشد شراسة وفتكا من التنظيمات الجهادية والقاعدة وداعش وغيرها من الأجيال المتعاقبة سلفا، ولطالما وستكون دوما المناطق الرخوة – المحافظات الحدودية - هى الهدف الأهم لها وللأجيال المنتظرة منها.
 
 
هوامش
(1) (إيلاف)
(2) (اتجاهات نظرية فى علم الاجتماع.. الكويت: المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة)

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق