أمريكا تحشد العالم بكامله ضد الصين.. الدولار والفائدة سلاحا واشنطن لسرقة الجميع

الأربعاء، 18 يوليو 2018 03:00 م
أمريكا تحشد العالم بكامله ضد الصين.. الدولار والفائدة سلاحا واشنطن لسرقة الجميع
الرئيس الأمريكي وخريطة الصين
حازم حسين

حرب غير سهلة بدأتها الولايات المتحدة، وتواصل التصعيد فيها، ويبدو أنها لا تكتفي بترسانتها الجبارة من الأسلحة، لكنها قررت أن تحشد العالم بأكمله للحرب في صفّها، رغما عن هذا العالم ودون تنسيق معه.
 
تستعد الحرب التجارية المتنامية بين واشنطن وبكين لدخول أسبوعها الثالث، ولا تلوح في الأفق أية مؤشرات للتحلل من الضغوط التي يتبادل الطرفان ممارستها على العالم، وبينما يمضي البلدان صاحبا الاقتصادين الأقوى عالميا في معركة عض الأصابع، تتكسّر عظام وتنسحق اقتصادات دول أخرى بينهما، أو تواجه مخاطر الانسحاق.
 
في الصراع الدائر سيسعى كل طرف لحشد وتوظيف كل ما لديه من طاقات وقدرات، الصين ستناور بنموّها الكبير وصادراتها الضخمة وسعر عملتها المتدني، والولايات المتحدة ستناور بميزانها التجاري وأدائها الاقتصادي والطلب المتصاعد على سنداتها، لكن تظل ورقة "الدولار" أهم عناصر المناورة، وهي الورقة التي تتيح لها حشد العالم ضد الصين، وسرقته في الوقت نفسه.
 
 
دعم للدولار وخصم من اقتصاد العالم
رغم أجواء التوتر المتصاعدة منذ أواخر العام الماضي، سواء في سوق النفط أو على صعيد العلاقات السياسية والملفات العالمية الساخنة، يواصل الاقتصاد الأمريكي أداءه الإيجابي بشكل ملفت للنظر، ما يُشجّع الإدارة الأمريكية على مزيد من التحركات التي تبدو مهددة لسوق عالمية غير متّزنة.
 
بورصة
 
نجحت الولايات المتحدة بضغوط سياسية واقتصادية في إثناء منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" عن قرار اتخذته أواخر العام 2017، بتقليص تدفقات النفط العالمية 1.8 مليون برميل يوميا، لتقر المنظمة في يونيو الماضي زيادة الضخ مليون برميل يوميا، ما قلّص من الضغوط الشديدة على العرض والطلب، وأنهى حالة شديدة من الشحّ في الأسواق، بشكل ساعد على ضبط الأسعار نسبيا.
 
في الوقت نفسه منحت واشنطن دفعات قوية لعملتها، بشكل ساعد الدولار على تحقيق ثبات إيجابي في الشهور الأولى من العام الجاري، ثم بدء رحلة من الصعود المتوالي مع زيادتين متتابعتين في سعر الفائدة، ساهمتا بشكل مباشر في تحسين أداء سوق السندات وأذون الخزانة الأمريكية، بجانب تقوية موقف الدولار، العملة المعيارية الشريكة لكل دول العالم في اقتصادها ونموها.
 
المساندة الكبيرة للدولار تُعني ارتفاعا واضحا في قيمته، وبالضرورة تراجعا للملاذات الاستثمارية الآمنة، سواء الذهب أو أسواق المال، وبالفعل سيطر اللون الأحمر على أداء السوقين خلال الفترة الماضية، وفي أشدّ الحالات إيجابية بقي الأمر متذبذبا بين الصعود والهبوط، بينما يضغط كل صعود في سعر الدولار على اقتصادات عشرات الدول حول العالم، بشكل يُقلّص فوائضها، أو يمنح جانبا منها للولايات المتحدة.
 

واشنطن تحارب روسيا بالدولار
الميزان التجاري الأمريكي الصيني يميل لصالح الأخيرة بفارق ضخم، ورغم تهديد الرئيس دونالد ترامب بتوسيع مدى الرسوم الجمركية الحمائية لتشمل كل الواردات الأمريكية من الصين، وقدرها 500 مليار دولار، لا يبدو هذا التهديد منطقيا أو ممكن التحقق، في ضوء ما سيمثله من ضغوط على الاقتصاد الأمريكي.. لهذا يظل الحل في المناورة.
 
دونالد ترامب
 
الصين حينما ردّت على حزمة الرسوم الأمريكية الأولى، وقالت إنها ستطبق مبدأ المعاملة بالمثل، كانت تعرف أن التصعيد مع واشنطن أمر محفوف بالمخاطر بالنسبة للبلدين، لكن ربما كانت مخاطره على بكين أكبر، لهذا حافظت على لهجة متوازنة وتلميح باللجوء للأطر القانونية الدولية، بتقديم شكوى رسمية لمنظمة التجارة العالمية، لكن هذه النقطة نفسها وظّفتها واشنطن لصالحها، بالمبادرة بشكاية الصين للمنظمة.
 
ربما يصعب تصور أن موقف ترامب والإدارة الأمريكية من الصين يتأسس على مخاوف اقتصادية مباشرة، فالاقتصاد الأمريكي في حالة جيدة ويشهد انتعاشة متنامية، والدولار في أقوى حالاته، ومؤشرات الوظائف غير الزراعية جيدة للغاية، وعجز الموازنة قيد السيطرة، والسندات وأذون الخزانة تشهد تدفقات مالية ضخمة.. كل الأمور إيجابية، لكن الأمر السلبي الوحيد أن الصين ما زالت تواصل النمو بوتيرة متسارعة، وهذا أمر مزعج للاقتصاد الأكبر في العالم، الذي يطمح بالتأكيد لأن يظل "الأكبر".
 
هكذا توظّف الولايات المتحدة العلاقات التجارية كأداة لتعطيل مسيرة الصين، ووضع عصاة غليظة في عجلاتها الدوّارة بوتيرة متسارعة، ليس لأن فرط النشاط الصيني يؤثر على الاقتصاد الأمريكي الآن، ولكن لأن استمرار تضخّم التنين وتعملقه يهدد المستقبل، وحتى يمكن المناورة في هذا المسار، لاقتناص أكبر مكاسب ممكنة، والخروج بأقل خسائر، فالدولار هو السلاح الناجع.
 
 
الدولار خنجر في قلب الصين
كل صعود يُسجّله الدولار ليس فقط تعبيرا عن قوة الاقتصاد الأمريكي، لكنه خناجر حادة تُسدد لصدور الاقتصادات الأخرى، الكبار والصغار، المنافسين والحلفاء، فالعملة الأمريكية بموقعها المعياري في المنظومة الاقتصادية العالمية، تشكل ضغطا ضخما على حركة التبادل التجاري في أنحاء العالم، وتضع الولايات المتحدة شريكا غير مباشر في كل هذه التجارة، وفي كل العوائد الاقتصادية ومؤشرات النمو.
 
ضمن السيناريوهات المتاحة للصين في الحرب التجارية، بحسب محللين وخبراء اقتصاديين، إمكانية المناورة بسعر "اليوان" مقابل الدولار، فوفق الحسابات الاقتصادية يُمكن بتقليص سعر العملة ضمان نفاذ الصادرات الصينية للسوق الأمريكية بتكلفة أقل، وتقليل آثار الرسوم الحمائية لتظل سلع بكين في صدارة قائمة التفضيلات لدى المستهلك الأمريكي، لكن خطورة الأمر أن هذا المسلك سيرفع تكلفة الواردات الصينية من واشنطن، وفي الوقت نفسه سيمثل ضغطا قاسيا على واردات الطاقة والمواد الخام، في بلد فقير الموارد ويعتمد بنسبة كبيرة على الاستيراد من الخارج حتى تدور ماكيناته ومصانعه.
 
الصورة السابقة تُعني أن كل ارتفاع يُسجّله الدولار، ينعكس على الصين - وغيرها بالطبع - في صورة ارتفاع في تكلفة تدبير النفط والمواد الخام، وكُلفة النقل وشحن الواردات ونقل الصادرات للخارج، والتكلفة الإجمالية لدخول الوجهات التجارية النهائية، وبالطبع تكلفة حصول المستهلك النهائي على السلعة، بشكل قد يخصم من مزاياها وموقعها التنافسي.

بكين تنتظر مزيدا من الخسائر
الانتعاشة الحالية التي يعيشها الدولار لا تبدو أمرا عارضا، أو في سبيله للخفوت، فالولايات المتحدة تُخطط على ما يبدو لتعزيز عملتها الوطنية وإقحامها في الحرب بشكل أكبر، وهذا ما أكدته رسائل جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) أمام الكونجرس مؤخرا، حول أداء الدولار وخطط دعمه المستقبلية.
 
في شهادته نصف السنوية أمام اللجنة المالية بالكونجرس، أمس الثلاثاء، قال "باول" إن مؤسسة الاحتياطي الفيدرالي لديها خطة متوسطة المدى لدعم الدولار، عبر زيادة سعر الفائدة مرتين في العام الجاري، ليبلغ عدد الزيادات 4 مرات خلال 2018، مع الاستعداد لحزمة جديدة تشمل 3 زيادات في العام 2019، مشيرا إلى أن هذا المسار يأتي على خلفية اقتراب معدل التضخم من المستهدف عند 2%، وقوة سوق العمل التي أكدها تراجع البطالة وحالة الوظائف غير الزراعية والنمو المتوازن للأجور، إضافة إلى تدفقات السندات وبقاء عجز الموازنة في وضع آمن.
 
خطط المؤسسة المالية الأكبر في الولايات المتحدة تُعني أن الدولار قد يتلقى تعزيزات ضخمة خلال الشهور الثمانية عشرة المقبلة (من الآن حتى نهاية 2019) بواقع 5 زيادات في سعر الفائدة، بمتوسط 1.25%، وهو ما سيمنح الدولار دفعة قوية للغاية على حساب الذهب وأسواق المال، ويزيد من كُلفة الاستثمارات المحلية والتبادل التجاري العالمي بين الدول.
 

ترمومتر الذهب والنفط وأسواق المال
في هذا المناخ الساخن يصعب التنبؤ بما ستكون عليه الأمور مستقبلا، لكن يُمكن النظر لبعض الأمور باعتبارها ترمومترا مبشرا بما قد تؤول إليه بعض المسارات، والترمومتر في هذه الحالة لن يكون الدولار أو اليوان بالتأكيد، وإنما الملاذات الاقتصادية والأسواق الاستراتيجية التي تحكم مسارات التجارة والاقتصاد حول العالم.
 
ذهب
 
الذهب يشهد نزيفا متواصلا منذ أسابيع. كان يُفترض أن تكون الحرب التجارية داعما له، باعتباره ملاذا آمنا في أوقات التوتر وسيطرة القلق على المستثمرين، لكن الأداء الإيجابي للدولار وسعر الفائدة الجيد حرما المعدن الأصفر من هذه القفزة، وفي تعاملات اليوم الأربعاء مثلا سجل الذهب أدنى مستوياته طوال عام، بسعر 1224 دولارا للأوقية، والنفط يتأرجح بين صعود وتراجع، لكن تظل أسعاره في مستويات مرتفعة، مع ضغوط قاسية للطلب مقابل عرض غير كافٍ، واحتملات لنشوب أزمة مع توقف الإمدادات الإيرانية والفنزويلية.
 
أسواق المال بدت أكثر تجسيدا لحالة الحرب التجارية، ففي الوقت الذي حافظت فيه الأسهم الأمريكية على استقرارها، وسجل بعضها صعودا، تراجعت أسواق المال في الصين وشرقي آسيا وعدد من المؤشرات الأوروبية، وسط مناخ من الترقب، وربما تطلعات حذرة لدى المستثمرين ومراكز الأموال الساخن لتحيّن الفرصة المناسبة للمضاربة، ما يُعني أننا قد نشهد صعودا مفاجئا، يتبعه تراجع كبير، وقد يتطور الأمر إلى فقاعة مالية.
 
بترول
 
أمريكا ليست بعيدة عن الخطر
رغم قوة الموقف الأمريكي، فإنها لا تبدو في مأمن من الخطر. صندوق النقد الدولي قال في تقرير له إن الحرب التجارية المشتعلة تشكل خطورة حقيقة على الاقتصاد الأمريكي، بجانب تأثيرها على الاقتصاد العالمي وحركة التجارة بين الدول، متوقعا انخفاض الناتج العالمي 0.5% بحلول العالم 2020.
 
ربما يستند محللو السياسة المالية الأمريكيون ومستشارو ترامب في تقييم الموقف الاقتصادي في الحرب الدائرة، إلى قوة الهياكل الاقتصادية الأمريكية، واعتماد القطاع الصناعي على سوق داخلية قوية وشبه مغلقة تستطيع امتصاص كل التدفقات الصناعية، عكس الصين، لكن حقيقة الأمر أن التراشق بالرسوم الحمائية سيمثل ضغطا داخلين على مستهلكي البلدين، وأخطر احتمالاته أنه سيقود المستهلكين لتقليص نفقاتهم، ما يُعني مزيجا من التضخم ومخاطر الانكماش الاقتصادي، أي أن البلدين قد يكونان بصدد موجة من "الركود التضخمي"، ومخاطر هذه الموجة أكبر بالنسبة لواشنطن.
 
في الوقت الذي دار فيه النمو الأمريكي حول مستوى 2% خلال العام الماضي، تجاوزت الصين حدود 6%، وفي العام الجاري تستهدف الولايات المتحدة كسر مستوى 2%، لكن الصين سجلت في الربعين الأول والثاني من العام 6.8 و6.7% بالترتيب، ومن ثمّ فإن أي ركود وضغوط تضخمية ستسبب لواشنطن خسائر أكبر مما ستتعرض له بكين، وقد تظهر لديها آثار انكماشية بالفعل، بينما لن يتجاوز الأمر بالنسبة للصين تسجيل تراجع في معدل النمو المرتفع أصلا.
 
الرئيس الصيني شي جين بينج

الذهاب إلى طاولة التفاوض
ستواصل الولايات المتحدة ضغوطها على الصين، خاصة أنها تشعر بقدر من المظلومية بسبب انتهاك بكين للحقوق التكنولوجية والملكية الفكرية، وستسعى الأخيرة للإبقاء على الصراع في مدى متوازن وقيد السيطرة.. لكن استمرار الحرب وتصاعد وتيرتها لن يرحم الطرفين، وقد لا يجدا أمامهما مسلكا إلا التقارب والتخلي عن التصعيد.
 
ربما تنجح الولايات المتحدة في فرض بعض شروطها على التنين الصيني، وربما يبقى الوضع على ما هو عليه.. لكن المؤكد أن لعبة توظيف الدولار لحصار بكين وتقويض تطلعاتها التي تراها متوحشة ومهدّدة لموقعها المعنوي ومركزيتها في الاقتصاد العالمي، ستظل اللعبة الأثيرة والمحببة للولايات المتحدة، على الأقل في سنوات إدارة ترامب، ما يُعني أن العالم سيظل رهينة لإرادة البيت الأبيض، وأن الأخير سيحشدنا جميعا لمحاربة خصومه، وسيسرقنا جميعا في الوقت نفسه.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق