الطريق إلى أكتوبر.. استعادة الذاكرة

الإثنين، 08 أكتوبر 2018 11:43 ص
الطريق إلى أكتوبر.. استعادة الذاكرة
د. أسامة حمدى يكتب:

هذا المقال من أطول ما كتبت في حياتي ولكني تمنيت كتابته منذ فترة طويلة وأردت أيضًا التحقق من جميع مصادرة لأنه يؤرخ لفترة من أروع صفحات تاريخنا المصري والتي طويناها كأنها لم تكن فجهلها أجيال وأجيال خاصة من أبنائنا لذا أتمنى أن تصبر على قراءته فهو محاولة يائسة مني لاستعادة الذاكرة الممسوحة عمدًا عن الطريق إلى أكتوبر.
 
كانت نكسة (١٩٦٧) جرحًا عميقًا للكبرياء المصري. فلقد احتلت سيناء بأكملها وأُغلقت قناة السويس ودُمر الطيران المصري على الأرض وأستشهد الآلاف قبل أن يقاتلوا وشَمَت فينا القريب من العرب قبل الغريب من الغرب. وانكسر خيلاء عبد الناصر وتنحى. 
 
فقد كانت طبول المعركة أعلى من قدرتنا على فهم الواقع وإدراك الخديعة التي حاكها الغرب والشرق بإبداع حينما طلبوا بل وهددوا عبد الناصر بعدم القيام بالضربة الأولى حتى لا يخسر تأييد العالم بل ونصحه السوڤيت بالرضوخ لرغبة الأمريكان بتلقي الضربة الأولى التي كانت القاضية والأخيرة. 
 
وقال البعض أننا لم نكن مستعدين للحرب وصدقناهم وقال آخرون أن قيادات الجيش لم تكن على قدر المسئولية والتدريب وأدعى آخرون أننا لم نكن نملك أي خطة للحرب ويقودنا رئيس مغرور أهوج. فمن السهل نعت المهزوم بأي صفة تريدها وسيصدقك الجميع في الحال فالمهزوم لا يملك حتى حق الدفاع والتبرير فالتاريخ يكتبه دائمًا المنتصر ولا داعٍ عنده من تزيين الانتصار وإضافة هالات من الزهو والثناء على عبقرية المنتصر وبطولاته فلا صوت ولا حق للمهزوم.
 
ولكن ما لا يعرفه الكثيرون من الجيل الحالي أن السنوات الثلاث التي تلت الهزيمة كانت من أروع ملاحم نضال الشعب المصري بل أروعها على الإطلاق في العصر الحديث والتي أظهرت بوضوح معدن شعبنا الأصيل الذي لا يبرق ويزداد لمعانًا إلا في وقت الشدائد. كانت هذه الفترة التي عشتها صغيرًا الأتون الذي شكَّل إحساسي الوطني وإحساس جيلي معي وزرع فينا حب مصر وعشق ترابها وأثبت لنا أنه يمكنك دائمًا الرهان على قدرة الإنسان المصري في وقت الشدائد ولن تخسر أبدًا مهما بدى الأمل خافتًا.
 
بدأت هذه الفترة بتمسك الشعب بعد الهزيمة بقائده والتي صورها المغرضون على أنها مسرحية ولكني رأيت بعيني الملايين في كل شوارع مصر وهى ترفض الهزيمة وتتمسك بزعيمها. تلتها سريعًا خطة لإعادة تماسك الجيش فقد صمم الجميع على شيء واحد وهو ألا يهنأ العدو بسيناء التي اغتصبها واستنزافه طالما قرر البقاء على أرضنا مع انتظار الفرصة للانتقام من المعتدي وغسل العار والذي هو من الطبيعة الأصيلة في الشعب المصري.
 
قبل نهاية يونيو أصدرت القيادات أوامرها بعدم الارتداد للخلف وفضل المقاتل المصري الموت دفاعًا عن أرضه بدلًا من وصمه بالعار مع تنظيم خطوط الدفاع بما تبقي من جيشه وهو (١٠٠) دبابة و(١٥٠) مدفعا وعدة طائرات. 
 
وبدأت حرب الألف يوم بمرحلة الصمود والتي رأينا فيها قوات الصاعقة تصد باستماتة مدرعات العدو التي حاولت احتلال مدينة بورفؤاد في (١ يوليو ١٩٦٧)، وهي المعركة التي أطلق عليها رأس العش. وفِي نفس الْيَوْم أطلقت المدفعية نيرانها بشراسة على سيناء. تلتها إغارة ما تبقى من طائراتنا على مواقع العدو في سيناء يوم (٤ يوليو). 
 
وشملت مرحلة الصمود المعارك الجوية في (١٤ و١٥ يوليو) والتي كبدت العدو خسائر فادحة وأعادت بعض الثقة في قدرة قواتنا. ثم معركة المدفعية في (٢٠ سبتمبر) التي دمرت الكثير من مدرعات العدو وقتلت (٢٥) وجرحت حوالي (٥٠٠). ثم تدمير المدمرة إيلات في (٢١ أكتوبر)، وهي من أضخم القطع البحرية في أسطول العدو مع خسارة فادحة في الأرواح. 
 
كما قام القناصون المهرة باصطياد جنود العدو من أبراج المراقبة. كما أفشلت القوات البرية والبحرية عمليات الإنزال في منطقة القناة ودمرت للمعتدي (٨) طائرات و(٨) زوارق و(٥٤) دبابة ومدرعة وخسائر ضخمة في الأرواح. ورد العدو بالغارة على الأهداف المدنية والمصانع. واستمرت مرحلة الصمود بتراشق شبه يومي وكمائن غير متوقعة للعدو في الضفة الشرقية وخطف أسري وأسلحة حتى يونيو (١٩٦٨). لم يصدق العدو ما يراه من هذا الصمود الغير متوقع. وساعدنا العرب بالمال لتعويض خسائرنا العسكرية وتحديثها ففي نهاية (١٩٦٧) استعاد الجيش (٥٠٪‏) من قدرته قبل الحرب.
 
تلت مرحلة الصمود مرحلة الدفاع النشط والمواجهة حين قال عبد الناصر أن «ما أخذ بالقوة لن يسترد بغير القوة». وكان (٨ سبتمبر ١٩٦٨) يوما تاريخيًا حيث قصفت المدفعية جميع خطوط العدو بدون انقطاع حتى عمق (٢٠ كيلو متر) من الضفة الشرقية فدمرت العديد من مواقع الصواريخ والدشم والمواقع الإدارية التي تشرف على إنشاء خط بارليف. 
 
وتكرر القصف المركز يوم (٢٦ أكتوبر) والذي دمرت فيه العديد من مواقع الصواريخ كما وقع العديد من الدبابات الهاربة في كمائن قاتله. لقد بدى واضحًا تفوق المصريين مما حذى بالعدو لتوسيع جبة القتال بقصف مصنع نجح حمادي في جنوب مصر ومحولات السد العالي حتى يثور الشعب على قائده. بدأ الشعب بأكمله في تأمين نفسه من غارات العدو الهوجاء ضد المدنيين وأتذكر ونحن ندهن زجاج نوافذنا باللون الأزرق ونضع أكياس الرمال أمام مداخل بيوتنا ويبني الكبار حوائط بالطوب الأحمر أمام بوابات العمارات.
 
كانت المرحلة الثالثة من أعظم وأخطر المراحل وسميت مرحلة الاستنزاف والتحدي والردع وبدأت كما كان محددًا لها في فبراير (١٩٦٩). وكان يوم (٨ مارس) يومًا مشهودا حيث قامت (٣٤) كتبية مدفعية بإمطار العدو بحوالي (٤٠) ألف قذيفة دمرت فيها (٣٠) دشمة في خط بارليف و(٢٩) دبابة و(٢٠) بطارية مدفعية وهى المعركة التي أستشهد فيها الفريق عبد المنعم رياض وبعض القادة. تلتها في ١٣ مارس وما بعدها إسقاط متكرر للصاعقة ليلا خلف خطوط العدو لتدمير عشرات المواقع وأسر العديد من جنود العدو والعودة بهم. 
 
وفِي (١٧ أبريل) نفذ الجيش عملية أسماها هدير حيث قصفت المدفعية المتفوقة والدبابات بتركيز شديد جميع فتحات المراقبة والدشم على طول خط بارليف وقتل فيها المئات من الجنود المتحصنين داخلها.  وكالعادة رد العدو بقصف محولات نجح حمادي للمرة الثانية ومنطقة إدفو وقتل المدنيين. فكان الرد من القوات الخاصة بقيادة الشهيد إبراهيم الرفاعي في (٨ يوليو ١٩٦٩)، والتي قتلت في يوم واحد ٣٠ جنديا تلتها غارة مميتة في (١١ يوليو) قتلت وجرحت (٤٠) فردًا ودمرت العديد من الدبابات والدشم دون خسائر كبيرة في صفوف جيشنا الباسل. 
 
نفذ بعدها طيران العدو العديد من الغارات في محاولات مستميتة لوقف هؤلاء الأبطال دون جدوى فقد دمر جنودنا طريق شرم الشيخ وأغارت القوات الخاصة في (٣٠ نوفمبر) على موقع شمال الشط وقتلت وأصابت سبعون.
 
وفِي (٦ ديسمبر) استعادت القوات نقطة هامة شرق القناة ووضعت العلم المصري عليها قبل أن يصدر لها قرار بالعودة. لقد كسر جيشنا الحاجز النفسي تمامًا والذي سببته الهزيمة في يونيو فقبل نهاية العام كان الجيش قد قام بحوالي (٢٩٠٠) طلعة جوية من (١١٠) طائرة في مقابل (٣٥٠٠) من (١٣٠) طائرة ودخل في (٢٢) معركة جوية وقام بحوالي (٤٤) عملية برية استشهد فيها (١٦) ضابطا و(١٥٠) من الجنود في مقابل (١٣٣) قتيل و(٣٢٠) جريح من قوات العدو. أصبح العدو لا يغمض له طرفة عين وهو لا يعرف من أين يأتيه الموت ليلًا أو نهارًا.
 
تحولت المعارك الشرسة تحولا خطيرا في (١٩٧٠) حين حصل العدو على طائرات الفانتوم وبدأ بالإغارة على القاهرة وإحداث فرقعات شديدة في سماها لإرهاب الشعب تلاها قصف مصنع أبو زعبل وقتل سبعين عاملًا وقصف مدرسة الأطفال في بحر البقر. فرد جيشنا ردا قاسيًا على هذه المذابح بالعديد من الكمائن من قوات الصاعقة في الضفة الشرقية والتي أسرت العشرات وقنصت وقتلت العديد من الجنود العائدين من أجازاتهم. 
 
ثم تحولت المعارك تحولًا جذريًا في (٣٠ يونيو ١٩٧٠) بعد أن اكتمل حائط الصواريخ في زمن قياسي لا يتعدى أربعون يومًا تحت القصف الشديد وببطولة خارقة للمهندسين العسكريين المصريين. وكانت أولى بشائره سقوط (٢٤) طائرة في أسبوع واحد من (٣٠ يونيو) إلى (٧ يوليو) منهم (١٢) طائرة فانتوم. وقد سمي بأسبوع تساقط الفانتوم.
 
وقبل نهاية شهر يوليو كانت حصيلة قوات الدفاع الجوي وحائط الصواريخ (٥٤) طائرة مما جعل من المستحيل على طيران العدو حتى التفكير في الاقتراب من الشاطئ الغربي للقناة. أصاب العدو الرعب بعد أن شُل ذراعه الجوي تمامًا وبات واضحًا أنه لو خاضت مصر حربًا في (١٩٧٠) فستنتصر دون محالة. سعى العدو بكل قوة لإنهاء المجزرة التي يعيشها على أيدي أبطالنا فتوسطت له أمريكا في إنهاء حرب الاستنزاف ووافقت مصر أخيرًا على مبادرة وزير الخارجية وليم روجرز بعد أنهكت العدو تمامًا ماديًا ونفسيًا. 
 
تحركت بعد المبادرة حوائط الصواريخ لتقترب من القناة وتشكل العامل الأول والحاسم في معركة الانتصار في (٧٣) لتمكن جيشنا من بناء المعابر دون أدني خطر من طيران العدو. حين انتهت حرب الاستنزاف قال العدو أنه خسر أربعين طيارا و(٨٢٧) قتيل من القوات البرية و(٣١٤١) ما بين جريح وأسير. وفي المجال الاقتصادي زاد حجم الإنفاق العسكري بما مقداره (٣٠٠) في المائة.
 
لقد أثبتت حرب الاستنزاف معدن الشعب المصري الصلد الذي قد ينجرح مرة ولكن لا يموت أبدًا. كانت حرب الألف يوم مؤشرًا هامًا لقدرتنا على حسم المعركة إن انطلق نفيرها وكان موت عبد الناصر العامل الوحيد المُؤخِر ليوم الحسم الذي جاء في العاشر من رمضان بعد ثلاث سنوات قضيناها ونحن نعد الأيام ببطء ليوم الثأر. 
 
لا أصدق أن خمسون عامًا مرت على حرب (١٩٦٧) التي أظهرت فيما بعدها جوهر الإنسان المصري الحقيقي. والآن يأتي يوم (٥ يونيو) مع (١٠) رمضان ليذكرنا بيوم الانكسار ويوم النصر معا في يوم واحد ولكن لا يذكر لنا ما حدث بينهما والذي أردت هنا أن ذكره. 
 
سردت ذلك الحديث المطول لتعرف أجيال الشباب الحالي صفحات مشرقة من البطولة خاضها آبائهم المصريين بحب لبلدهم وترابها الغالي. فالمصري إنسان ذو إرادة حديدية ومعدن لا يصدأ أبدًا. أتمنى أن أكون قد نجحت في استعادة بعض الذاكرة التي مسحها الكثيرون عمدًا من تاريخنا العظيم.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق