عن انتهازية المثقفين.. يرعون مع الحملان ويأكلون في كتارا

السبت، 20 أكتوبر 2018 03:33 م
عن انتهازية المثقفين.. يرعون مع الحملان ويأكلون في كتارا
حازم حسين يكتب:

مع توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، دعت دول عربية عديدة لمقاطعة القاهرة، تزعمت هذه الدعوة إمارة قطر التي لم تكن نست بعد شجاراتها مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وبالفعل نجحت الدعوات في إنجاز مقاطعة واسعة المدى، ونقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس.
 
في هذه الآونة لم تكن مصر عدوًّا للأمة العربية. لا هاجمت دولها ومؤسَّساتها، ولا رعت أعداءها ودعمتهم بالمال والسلاح. كل ما في الأمر أنها انحازت لخيار السلام بعد سنوات طويلة من الحرب، تكبّدت فيها خسائر مادية وبشرية، كان أي بلد شقيق من المقاطعين يعجز عن تحمُّلها. لكن لغرض في نفس يعقوب أٌثيرت دعوات المقاطعة، وحشدت لها الدوحة وبغداد صدام حسين وعدة عواصم أخرى، واستمرّت سنوات كان من نتائجها أن قاطع أغلب الأدباء والمثقفين العرب معرض القاهرة للكتاب وباقي الأنشطة والفعاليات المصرية، ومن تجاسر منهم واخترق المقاطعة اتُّهم بالخيانة ودعم إسرائيل والسير على دماء الفلسطينيين.. كانت الاتهامات كلها مصنوعة ومتضخّمة بفعل فاعل؛ لأن مصر لم تفعل شيئا إلا تأمين مصالحها السياسية دون تعدٍّ على مصالح الآخرين، لكن رغم هذا سار قطار المقاطعة، ووجد رُكّابًا بالملايين.
 
الآن نعيش سياقا شبيها.. مقاطعة واضحة من عدة دول عربية لإمارة قطر، مع فارق أن الأخيرة مُدانة بالفعل بدعم الإرهاب واحتضان الإخوان وتمويل الميليشيات المسلحة في عدة دول عربية، وتبني خطاب عدائي ضد دول شقيقة، في مقدمتها مصر، عبر منصّاتها الإعلامية المباشرة، الجزيرة وأخواتها، والمنصات الإخوانية المدعومة ماليا من جانبها، العربي والشرق ووطن ومكملين والحوار وغيرها.. لكن الفارق الأكبر أن الدوحة يتوفّر لها الآن طابور من الانتهازيين الذين يرعون مع الحملان ويأكلون مع الذئاب.
 
قبل ثلاث سنوات أطلقت قطر جائزة للرواية العربية باسم الحي الثقافي بالعاصمة «كتارا». منذ الدورة الأولى حضر المصريون ضمن قوائم الفائزين. طبيعة الأمور تقطع بأن مصر تملك نصف الأدب العربي على الأقل، إن لم يكن بالإجادة والتميُّز فبالكثافة وحجم المجتمع. وطبيعة الأمور أيضا تقطع بأن أية مسابقة عربية مفتوحة لا يمكن أن تخلو من فائزين مصريين.. ليست في الأمر مفاجأة ولا استثنائية تدعو للاغتباط والحبور.. ربما يكون الفوز طبيعيًّا ومن البديهيات، لكن المهم أن يكون السياق مُتّزنًا وسليمًا ليكون هذا الفوز مُستحقًّا ومُبهجًا فعلا.
 
حينما ثبت لدى عدد من الدول العربية انحياز قطر للإرهاب وميليشياته، صدر إعلان رباعي عن مصر والسعودية والإمارات والبحرين بمقاطعة الدوحة حتى تعود إلى رشدها، وتتوقف عن دعم الإرهاب واستهداف الدول الشقيقة.. كان هذا القرار في 5 يونيو 2017، وعندما أُعلنت نتائج «كتارا» في أكتوبر التالي سافر كاتب وكاتبة لتسلّم جائزتيهما، وتعلَّل أصدقاؤهما وأقاربهما والمشتاقون للدولارات في الدورات التالية بأن التقديم للجائزة كان سابقا على قرار المقاطعة.. كان التبرير ساذجا وانتهازيًّا ومغموسًا في المادية حتى أذنيه، في ضوء أن باب الاعتذار والمقاطعة مفتوح طوال الوقت، لكن مرّ الأمر وابتلع الرافضون هذه الحجّة الساذجة.
 
في دورة هذا العام فاز أربعة مصريين، في فروع الرواية المنشورة وغير المنشورة ورواية الفتيان والدراسات النقدية، وحضرت الكاتبة الفائزة في دورة العام الماضي ضمن المكرمين على هامش توزيع الجوائز.. كان التقدم لهذه الدورة بين أكتوبر وديسمبر الماضيين، أي بعد أكثر من خمسة شهور على قرار المقاطعة، ورغم الموقف الرسمي وثبوت إدانة قطر بدعم الإرهاب وضلوعها في تمويل الإخوان والميليشيات الذين أراقوا ويريقون دماء العسكريين والمدنيين في سيناء وغيرها منذ خمس سنوات، تقدّم عشرات المصريين، وفاز أربعة، وسافر خمسة، وفرح الجميع بالطيران الفاره والفنادق الفاخرة والدولارات الطائلة، وكأن قضايا الدماء والأوطان لا تعنيهم ما دامت حساباتهم البنكية بخير.
 
المثير للهم والغم والنكد أن من بين دول الرباعي العربي المقاطعة لقطر لم يشارك سوي المصريين. وبين المشاركات التي سجلت 1283 هذا العام، حضرت مصر بأكثر من 300 مشاركة، مقابل 118 لدول الخليج، انحصرت في قطر والكويت وسلطنة عمان، التي تحتفظ بعلاقات طبيعية مع الدوحة. بينما غابت السعودية والإمارات والبحرين.. هذه المؤشرات ربما ترتبط في جانب منها بالمستوى الاقتصادي المتفاوت بين بعض الدول، لكن لا شك في أنها ترتبط من جانب آخر بقدر من الانتهازية والسعي وراء المال، خارج أي نظرة موضوعية للسياقات وتفاعلاتها.
 
المدافعون عن هذا التوجه الانتهازي يرون أن الثقافة والأدب لا علاقة لهما بالسياسة ومشاحناتها، متجاهلين أن هذه المشاحنات كانت سببًا في مقاطعة عربية واسعة المدى لمصر خلال ثمانينيات القرن الماضي دون سبب حقيقي، ودون أن نتورّط في الدم كما تورّطت فيه قطر. وبهذا المنطق ربما يُبرِّر هؤلاء الطامحون في الدولارات أي اتجاه مستقبلي للتطبيع الثقافي مع إسرائيل، ولعل هذا الأمر كان واضحًا في عدم استهجان أي منهم لترجمة روايات أحد أشهر الكتاب المصريين للعبرية باتفاق مباشر مع دار نشر أمريكية، وباستيفاء الحقوق المالية عن الطبعة الموجهة للسوق الإسرائيلية.
 
في وقت سابق واجهنا مقاطعة عربية لموقف سياسي، احتشد فيها المثقفون العرب خلف دولهم. الآن تواجه قطر مقاطعة لموقف أخلاقي محفوف بالنذالة وإراقة الدماء، وفي الوقت الذي يلتزم فيه مثقفو الدول الأخرى الذين يحترمون دماء ناسهم وحرمات مجتمعاتهم، يُهرول المصريون تاركين كرامتهم على باب الحي الثقافي في الدوحة، راضين بالعودة بشيكات الدولارات تحت لافتة أن الثقافة بريئة من السياسة، وفي حقيقة الأمر يتجاهلون أن الخلاف ليس على السياسة، وإنما على الدم.
 
بين موقف الدورة الماضية الذي تكرَّر في 2018، والمؤكد أنه سيتكرَّر في الدورات المقبلة، لا تبدو المشاركة في جائزة تمنحها دولة متورِّطة في الدم ودعم الإرهاب موقفًا رشيدًا.. في هذا المشهد يتعيّن على الثقافة أن تتدخل لممارسة دورها الأخلاقي، ولسنا في حاجة للقول إن قبول جائزة من بلد داعم للإرهاب هو في جوهره دعم للإرهاب، ومصافحة يد ملوثة بدماء أبرياء في مصر وسوريا والعراق وليبيا، هي مشاركة في الدم وإقرار غشوم لإراقته بغير وجه حق.
 
يحق هنا السؤال عن الضمير ومنظومة القيم التي يُطنطن بها المثقفون ويدّعون تمثيلها.. ربما يتعيّن على وزارة الثقافة ومؤسَّساتها أن تأخذ موقفا من المهرولين في طوابير العطايا القطرية، فما لم تنضبط الأوضاع وتعود قطر عن مسارها الداعم للإرهاب، فإن كل دعم إعلامي أو سياسي أو ثقافي لها هو تقوية لموقفها وخنجر في ظهر القضايا الوطنية، لكن بعيدًا عن المؤسسات الرسمية يظل صمت الوسط الثقافي مُريبًا، وكأنه مباركة للأمر وانتظار للدور.. فإلى متى سيظل المثقفون المصريون يرعون مع الحملان ويأكلون ويريقون كرامتهم ونخوتهم وماء وجوههم في كتارا وتحت أحذية آل ثاني؟!

 

 

تعليقات (1)
تحليل ممتاز
بواسطة: م/ أحمد خالد
بتاريخ: الأحد، 21 أكتوبر 2018 09:25 ص

هذه هي النخبة دائما منذ أن عرفناهم بعد يناير 2011 .. إنتهازيين والمقارنة بين الموقفين .. مصر في أواخر السبعينات وقطر في 2018 .. مقارنة ممتازة .. بس مصر طول عمرها دولة محترمة .. وتعالوا نشوف لو الجوائز دي في مصر وحضر مثقفين من الدوحة .. ماذا كانت ستفعل بهم الدوحة .. ؟

اضف تعليق