دمنهور على خُطى طهران

الخميس، 11 أكتوبر 2018 12:17 م
دمنهور على خُطى طهران
حازم حسين

رغم أن العلاقات المصرية الإيرانية شهدت جفوة واضحة بدءا من العام 1979، مع اندلاع ثورة إيران التي ركبها الخميني وفريقه من رجال الدين وملالي قُم، واستضافة الرئيس السادات للشاه محمد رضا بهلوي، إلا أن الأمر تطوّر وأصبح أكثر سوءًا عقب اغتيال السادات في الذكرى الثامنة لانتصارات أكتوبر، وإطلاق اسم المتورّط الأول في الجريمة خالد محمد أحمد شوقي الإسلامبولي على أكبر شوارع طهران.

منذ اللحظة الأولى لثورة الملالي بدا واضحًا أن إيران قررت الذهاب في اتجاه المكايدة، وكانت وسيلتها الأبرز تسمية كثير من شوارع العاصمة والمدن الكبرى بأسماء متطرفين إسلاميين أو متورطين في جرائم سياسية وجنائية ببلدانهم التي تأخذ إيران موقفا عدائيا تجاهها. بدأ هذا الأمر بالإسلامبولي وتكرر مع حسن البنا وسيد قطب وعشرات غيرهم. ورغم سذاجة هذا الموقف إلا أنه يبدو مفهوما في حدود رؤى الملالي وتصوراتهم وخبراتهم السياسية وانحيازاتهم العرقية والمذهبية. لكن الغريب أن يحدث هذا الأمر داخل مصر، وأن تسير مدينة مهمة مثل دمهنور، عاصمة محافظة البحيرة، على خُطى طهران.

في الوقت الذي تواجه فيه مصر موجة إرهابية لم تنكسر بعد، رغم جهود الأجهزة الأمنية وحالة الالتفاف الشعبي في مواجهة الإخوان. تحتفي مدينة دمنهور باثنين من قيادات الجماعة التاريخية وأبرز رموز الإرهاب. بإطلاق اسمي حسن البنا وسيد قطب على اثنين من أهم شوارع المدينة.

العودة في الزمن تكشف جانبا من التفاصيل. في العام 1996 أطلقت دمنهور اسم سيد قطب، الذي حُوكم في إحدى قضايا الإرهاب ونُفّذ فيه حكم الإعدام في العام 1966، على خلفية تشكيل الإخوان تنظيما لتفجير القناطر الخيرية بغرض إغراق محافظات الدلتا، واغتيال الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، ومهاجمة وإحراق عدد من المنشآت العامة والحيوية. حدث هذا الاحتفاء في فترة مهادنة النظام الأسبق للجماعة الإرهابية، رغم أن الإرهابي المُدان سيد قطب من مواليد أسيوط ولا علاقة له بالبحيرة وشوارعها. وتلت عملية الاحتفاء بـ"قطب" تكرار الأمر نفسه مع حسن البنا، مؤسس الجماعة وقائدها الأوحد في السنوات الإحدى والعشرين الأولى من عمرها.

حسن البنا الذي قُتل في فبراير 1949 على خلفية صراعات داخلية بالإخوان، عقب إعلان تبرّؤه من عبد الرحمن السندي والجناح المسلح بالجماعة، إثر اكتشاف تورّطهما في عشرات العمليات الإرهابية، منها تفجير حارة اليهود وحي الموسكي وإحراق عدد من دور السينما واغتيال رئيسي الوزراء فهمي النقراشي وأحمد ماهر، والقاضي أحمد الخازندار، حاول مرارا الظهور في صورة الوسطي الرافض للعنف، إلا أنه كان المسؤول الأول عن كل هذه الجرائم. الأمر نفسه مع سيد قطب الذي صوّرته الجماعة في هيئة المفكر والكاتب والمثقف، لكنه كان المُنظّر الأول للعنف المؤسَّس على أرضية دينية، والداعية الأبرز لحمل السلاح في وجه الدولة والمجتمع، وبفضل كتاباته وآرائه، وأخطرها "معالم في الطريق"، جرت عملية تأصيل واسعة للعنف بمنطلقات دينية، أبرزها الحاكمية وجاهلية المجتمع. وعلى أُسس هذه الكتابات واصلت الإخوان إرهابها، وانبثقت منها تنظيمات أخرى أكثر شراسة، بدءا من الجماعة الإسلامية والجهاد، وصولا إلى حسم وداعش، والأخيرة تعتبر سيد قطب مرجعيتها العليا بجانب ابن تيمية وابن القيم وأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي.

الصادم في المسألة أن هذا الاحتفاء يمتدّ قافزًا فوق ثورة 30 يونيو وما أقرته الإرادة الشعبية فيها. لكن الأخطر في المسألة أنه بدءًا من 17 أغسطس 2013 لم يعد ممكنا الحديث عن الإخوان خارج دائرة الإرهاب. في هذا التاريخ أصدر الرئيس السابق عدلي منصور قرارا جمهوريا برقم 397 لسنة 2013، يُعمل به من اليوم نفسه، ويقضي بوضع جماعة الإخوان على لائحة المنظمات الإرهابية، ومصادرة أموالها ومقراتها وممتلكاتها، ومحاكمة كل من يثبت انتماؤه لها عسكريا.. هذا القرار يُعني أن أي تعامل مع الجماعة أو إخراج لها من زُمرة الإرهاب يُمثّل مخالفة قانونية صريحة، بجانب ما يحتمله من شبهات دعم الإرهاب والتحالف معه ومساندته في وجه الدولة. فهل تغيب كل هذه الأمور عن أذهان المسؤولين في محافظة البحيرة ومجلس مدينة دمنهور؟

الردّ المتوقع من مسؤولي دمنهور على هذا الأمر أنه سينخرطون في عملية نفي جارفة للأمر، وتغليظ الأيمان بأن شارعي حسن البنا وسيد قطب لم يعد لهما وجود. المسؤولون سيستشهدون بالأوراق ويتناسون الواقع والممارسات العملية. وحتى تكون الأمور واضحة ولا تحتمل اللبس، نعلم أن الأوراق سليمة تمامًا، وعليكم معرفة أن الواقع معتل ومختل وغير سليم بأية صورة من الصور.

في مطلع أكتوبر 2014 صرّح اللواء مصطفى هدهود، محافظ البحيرة الأسبق، بأنه خاطب اللواء عادل لبيب، وزير التنمية المحلية وقتها، طالبا تغيير اسمي شارعي حسن البنا وسيد قطب بمدينة دمنهور. بعيدًا عن غرابة مخاطبة محافظ لوزير بشأن تغيير شارعين، وعن تأخر الخطوة أكثر من 14 شهرا بعد القرار الجمهوري القاضي بوضع الإخوان على لائحة المنظمات الإرهابية، فإن تحرّك "هدهود" كان أمرًا جيدا. أن تأتي متأخرا 14 شهرا أفضل كثير من ألا تأتي، أو من أن تظل متأخرا فعلا حتى أكتوبر 2018.

في 21 أكتوبر 2014 صرّح المحافظ اللواء مصطفى هدهود بأنه قرر تغيير اسمي الشارعين: حسن البنا إلى المستشار عدلي منصور، وسيد قطب إلى المشير عبد الحليم أبو غزالة. كان واضحا وقتها أن الأمر لم يُدرس بالشكل الكافي، خاصة مع وجود شارع سابق في دمنهور باسم المشير أو غزالة. لاحقا دُرس الأمر وجرى استبدال أحمد الوكيل بـ"أبو غزالة"، ليصبح الورق سليما 100%.. لكن المشكلة أن الواقع لم يتحرك سنتيمترا واحدا.

حتى هذه اللحظة ما زال المواطنون يتحدثون عن شارعي سيد قطب والشهيد حسن البنا، ما زالت الرسائل البريدية والمكاتبات الرسمية تصل بالاسمين نفسيهما، العناوين على المواقع الرسمية للبنوك ما زالت على حالها، الأوراق الثبوتية وبطاقات الرقم القومي كما هي، ولا لافتة واحدة جديدة في كل شارع باسمه الجديد. يبدو أن المحليات غيّرت اسمي الشارعين في أوراقها واكتفت بأن النيّة محلها القلب، فلم تُخطر الجهات الرسمية الأخرى، ولم تضع لافتة لإرشاد المواطنين. حُسن الظن يشير إلى إهمال وتراخٍ وعدم اهتمام بالقانون والقرارات الجمهورية، لكن سوء الظن قد يفتح الباب لاحتمالات أكثر خطورة، بشأن وجود خلايا إخوانية نائمة في ديوان محافظة البحيرة أو مجلس مدينة دمنهور، وربما رغبة لدى بعض الموظفين والمسؤولين لمساندة الجماعة الإرهابية ومكايدة الدولة المصرية وإهانة الجهود الرسمية والشعبية في مواجهة الإرهاب. يحق للجميع التفسير كيفما يرون والوصول بسوء الظن إلى آخر مدى متاح، إذ لا مبرّر لما يحدث في دمنهور، لا منطقية في الأمر، ولا شفاعة أو أعذار للمسؤولين عن هذه الوقاحة المُتداولة يوميا في أهم شوارع المدينة.

ربما يرى البعض الأمر تافها وسطحيا، لكنه في الحقيقة مزعج وخطير للغاية. في الوقت الذي نُسخّر جهود الدولة بكاملها لمواجهة إرهاب الإخوان وحصاره، تحتفي واحدة من أهم مُدننا بالرموز التاريخية لهذا الإرهاب بشكل يومي دائم، تُبقي أسماءهم حاضرة في الأذهان، وتُجبر الناس على ترديدها صباح مساء. تحتاج هذه الجريمة المفتوحة على وعي وعقول أهالي دمنهور دخّلا من اللواء هشام آمنة، محافظ البحيرة، واللواء محمود شعراوي، وزير التنمية المحلية، أولا بتعديل اسمي الشارعين رسميا وعمليا وإخطار كل الجهات التنفيذية والمؤسسات الرسمية والأهلية والمصارف والمصالح الحكومية، وثانيا بمحاسبة متجاهلي قرار المحافظ الأسبق مصطفى هدهود في أكتوبر 2014، ومساءلة المسؤولين عن امتداد الأمر حتى هذه اللحظة، ووضع لافتات واضحة في الشارعين باسميهما الجديدين، وإغلاق بعض المحال التي تحمل الاسمين في الشارعين المذكورين، والأهم البحث عن الخلايا الإخوانية النائمة في ديوان المحافظة ومجلس المدينة.

نظرة يا وزيرة التنمية المحلية، وخطوة جادة يا محافظ البحيرة. من المحمودية انطلقت جماعة الإخوان قبل أكثر من 90 سنة لتعيث في أرجاء البلاد وعقول العباد فسادا. والآن تجتهد الدولة لتجفيف منابعها وحصار سرطانها الخبيث في كل المحافظات والمُدن، وتصمم دمنهور على أن تُبقي عليها حيّة وتمدّ حبلا سُرّيًّا معها للحفاظ على قادتها وإبقاء ذكرهم حاضرا ومُتردّدًا على ألسنة الناس. فهل تُعيد البحيرة الكرّة مرة أخرى وتُصدّر لنا الإخوان كما صدّرتهم أول مرة؟ هل ترى فعلا حسن البنا شهيدا وسيد قطب رمزا؟ هل وقعت المحافظة وأهم مدنها فريسة في أيدي موظفين مستهترين وخلايا نائمة؟ أم أنها تُعاند الدولة وتكيد لها - بوعي أو بدون وعي - وتسير على خُطى طهران؟!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق