الكومبارس

الإثنين، 15 أبريل 2019 12:55 م
الكومبارس

منحنيًا كجذوع النخيل، ممتقعًا كمياه النيل، سار إلى مكتب المحقق؛ للتحقيق معه بتهمة «الإهمال الجسيم»، وفقًا لـ«الإنذار النهائي بالفصل»، الذي وُقّعَ عليه دونما مناقشة، أو أن يكلف نفسه عناء السؤال عن ماهية «الإهمال» الذي ارتكبه، ولا عن أول إنذار يتلقاه في حياته. 
 
«الصراحة راحة»، والاختلاف في الرأي يثري العمل، ويقوي أواصر الود.. هكذا أكدوا له في أول اجتماع معه، على الرغم من إخبارهم بأنه خالٍ من أية ميول سياسية «يمينية»، أو «يسارية».. وصارحهم بحقيقة أنه أعسر -«أشول»؛ حتى لا يتهمه أحد- فيما بعد- بانتمائه لحزب معارض!
 
ابتسموا بتأفف.. واعتبروها دعابة صيفية لزجة.. حتى كانت المفاجأة. في أول مرة قال رأيه بـ«صراحة»، اعتبروها «وقاحةً» منه، وتطاولًا على «سيدهم» الذي لا ينطق إلا بلسان القهر؛ فكان مصيره «التجميد»، و«التجاهل»، و«الركن على الرف».. وقتها أدرك معنى أغنية: «أنا عايش ومش عايش»!
 
حين تقف على «طبلية الإعدام» فلا مجال للنقاش والجدال؛ فالتناطح مع الحمير ربما يتيح لك الفرصة لأن تكون حمارًا مثلهم، لكنه- قطعًا- لن يجعلك أفضل حالًا منهم!
 
قرار الاستغناء عن خدماته جاء سريعًا.. كان واضحًا وضوح الفساد في مفاصل الدولة؛ فتَكوَّم على نفسه واحتضن الصمت.
 
الحفاوة التي اُستُقْبِلَ بها في أول «انترفيو»- مقابلة- داعبت خياله.. كان الانبهار يعلو وجوه اللجنة التي ناقشت معه سيرته الذاتية، المعروفة بالـ«CV»، وخططه للتطوير، وأفكاره لرفع كفاءة وقدرات زملائه... يحدث نفسه: كنتُ أحمق عندما صدقتُ أن موتى الروتين سيمنحونني الفرصة لأعيدهم إلى حيوية العمل. كيف لمن لم يجرب الإبداع أن يحاكم مبدعًا، يحكم عليه، ويتحكم في مصيره؟!
 
يعمل الفرد بإخلاص؛ فيجد نفسه فريسةً طريدة لقطيع «انت جاي تصدعنا.. إحنا بنفهم أكتر منك ومن مليون زيك»!
 
يا إلهي.. كيف يُكافأ الحمقى بالمناصب لمجرد ضمان الولاء.. ولماذا يحرص مسؤولون على مكافأة الفاشلين، وتقريبهم منهم، والاستمتاع بسماع وشايتهم على زملائهم؟!
 
«حضرتك شغال إيه بالظبط؟». سؤال لا يتوقف ابنه عن توجيهه إليه، وفي كل مرة يجيبه بصمتٍ، وانكسارٍ، ووجعٍ، لا يبرح ضلوعه، وحقيقة لا تغادر ذهنه: «أنا بتاع كُلُّه.. فلأجلكم يا ولدي تعلمتُ الانحناء»!
 
ستارة المسرح تنفتح على أصوات وأضواء خافتة.. يقف في المنتصف ممثل عشوائي الهيئة؛ رث الثياب؛ أشعث الشعر؛ جاحظ العينين؛ رافعًا بصره إلى أعلى، يسأل السماء بصوت عالٍ مرتعش: «أنا شغال إيه؟!».
 
صدى سؤاله يرتد إليه، فيعاود الكَرَّةَ مرة ومرات: أنا شغال إيه؟ أنا شغال إيه؟ أنا مدير؟ نائب مدير؟ مساعده؟ سكرتيره؟ مسؤول علاقات عامة؟ مُدخل بيانات؟ موظف أرشيف؟ مساعد أعمال إدارية؟ منسق حفلات وزيارات داخلية وخارجية؟ ساعي بريد خصوصي؟ تليفونيست؟ سائق خاص؟ عامل نظافة؟ عامل بوفيه؟ فرد أمن؟ عامل دليفري؟ لماذا أتحمل فشل الكبير في كل مرة؟ أليس هو المخطئ؟ ألم أنفذ تعليماته، وتوجيهاته، وأحلامه؟ أنا شغال إيه؟ شغال إيه؟ «شغال إيييه؟
 
تنهمر دموعه، وتتعالى صرخاته، ويتحشرج صوته.. وببطء ينزل على ركبتيه آخذًا وضعية السجود؛ فيتلقى تصفيقًا حارًا من الجمهور، ثم يسدل الستار!
 
ينهمر المطر حينما يعجز السحاب عن حمل الماء. يخرج مسرعًا من كالوس المسرح.. يعنفه المخرج: لقد أخطأتُ حين تجاهلتُ تحذيرات الآخرين بإسناد هذا الدور لك.. ظننتُك لن تتكلم.. عُدْ من حيث أتيت.. لقد خرجت عن النص، وعن دورك الذي رسمته لك.. أنت مجرد كومبارس.. كومبارس صامت.. وإياك أن تظن أنك تبدع لمجرد تصفيق الجمهور لك.. أنت تكتب نهايتك بيدك قبل أن تضع قدمك على سلم المجد.
 
قاطعه: إن كانت نهايتي في صراخي فلتكن النهاية.. فعقولنا طلَّقتْ الإبداع.. وأذهاننا خاصمتْ التألق.. أيادينا صارتْ مرتعشة.. وأنفاسنا تتردد في الخروج من صدورنا.. وأفواهنا امتنعت عن الكلام؛ خشية أن يُفهم خطأ.. 
فقط أجسادنا اعتادت على الحضور والانصراف.. اعتادت الجلوس على نفس المقاعد الرتيبة.. اعتادت مقابلة الوجوه التي تغمرها الألوان والمساحيق الخادعة.. أما أرواحنا فلم تعد تطيق المكان، صارت تحلق بعيدا عنه، تبحث عن خلاصها في مكان آخر!
 
يا سيدي، لقد قتلتمونا عمدًا.. ذبحتمونا بنظرة التجاهل.. نحرتمونا بنكاتكم السخيفة.. قضيتم علينا بغبائكم البارد؛ لأنكم توهمتم أنكم من طينة غير التي خُلِقنا منها.. وأننا بالنسبة إليكم سقط متاع.. أنتم تحتاجون إلينا فقط عندما تريدون شخصًا تُحَمِّلونه مسؤولية فشلكم! 
 
يا سيدي، أنتم تطالبوننا بضميرٍ يَقِظ. حسنًا.. لكن فاتكم أن تخبرونا من أين لنا بهذا الضمير؟ ومن أي محال نبتاعه؟ ومَنْ الشخص الذي سيبيعه لنا؟ وكيف نضمن سريان صلاحيته مدى الحياة؟!
 
آهٍ ثم آهٍ آه.. لقد قلبتم أحوالنا رأسنا على عقب؛ حتى أدمنا السلبية والتخاذل.. أجبرتمونا على الدخول في شرنقة البلادة والانهزامية.. أرغمتمونا على الانعزالية والانكفاء على الذات.. علَّمتمونا أن مرارة الجهل تنتصر على حلاوة العِلم.. تعلمنا منكم أن أصحاب الضمائر الحيَّة ممنوعون من الصرف.. أنتم مَنْ رسختم في أذهاننا أن الأمانة لم تعد كنزًا لا يفنى، بل قد تطيح بنا من وظائفنا.. تعلمنا منكم أن الاختلاف معكم في الرأي يقطع أوصال الود.. فهنيئًا لكم أجسادنا.. تلك الخُشب المسنَّدة التي تحاسبوننا عليها في دفاتر الحضور والانصراف!
 
استيقظ مضطربًا.. بَسْمَلَ وحَوْقَل، ثم غلبته إغفاءة طارئة، دخل على إثرها في نوم عميق.
ثم استيقظ- مذعورًا، مفزوعًا- على صوت زوجته وأولاده، الذين كانوا يصرخون بعد أن يئسوا من إيقاظه: «أعوذ بالله من دا كابوس»! 
 
«قليل من التنازل لا يضر.. أنتَ لست وحدك لتتحمل تبعات قرار انفعالي تتخذه في لحظة غضب».. حدَّثَ نفسه، ولم يشأ أن يخبر زوجته وأفراخه الثلاث بأضغاث الأحلام التي رآها في منامه. لم يخبرهم بأنه تحول من وزير في رقعة الشطرنج، إلى عسكري «مهاود» يتقدم الصفوف، ينفذ التوجيهات، ويُضَحى به في أقرب فرصة!
 
ابتسم وهو يستمع إلى قائمة طلبات زوجته التي سيحضرها عند عودته إلى المنزل.. وطول الطريق إلى العمل لم ينس نصيحتها له: «خليك هادي.. الشتيمة مبتلزقش، وبترجع لصاحبها.. إحنا في قفا المرتب»!
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق