رِدّةَ القرني

الأحد، 12 مايو 2019 03:05 م
رِدّةَ القرني
حسن مشهور

 
في أحد البرامج الحوارية التي بثت مؤخراً على إحدى القنوات السعودية، شاهد المواطنون السعوديون أحد رموز ماعرف بحركة الصحوة في ثمانينات القرن الميلادي المنصرم، وهو الدكتور عائض القرني يقدم اعتذاره لمواطني بلده عن تلك المرحلة الجدلية التي كان لها تداعياتها الخطيرة على الساحة الداخلية السعودية، إذ تمخض عنها مقتل المئات من شبابنا المغرر به في أتون حروب أجنبية لم يكن لنا فيها ناقة ولاجمل، بالإضافة لتبني نهج تصادمي مع السلطة أدى لأن تشهد الساحة السعودية جملة من العمليات الإرهابية التي كان لها وقعها المر على قلوب الجميع.
 
اعتذار القرني الذي نظر إليه التيار الليبرالي في الداخل السعودي باعتباره انتصاراً لقضيته، قد أثار في ذات الوقت حفيظة جيل ما عرف بالصحوة الذين رأوا في فعل القرني هذا رِدّةً على كل ما آمنوا به لعقود، واعتقدوا فيه المخلص للشعب السعودي من براثن الكفر والوقوع في حبائل الشيطان على حد زعمهم، كما إن هذا الاعتذار فيما يبدو لم يكن كافيا لبعض رموز التيارين الليبرالي والعلماني في المملكة الذين تعالت أصوات بعضهم منددين بهذا الاعتذار، الذي جاء متأخرا على حد زعمهم ومطالبين في ذات الوقت بفعل إجرائي آخر من قبل القرني يمثل تقويضاً علنياً لباقي آثار الصحوة، وهذا الأمر في تقديري مرده حالة الاحتقان المزمنة التي ترسبت في نفوس اليمين السعودي لعقود، والتي لن يؤدي الاعتذار بأي حال لمحو آثارها المرة من وجدانهم.
 
وقد صادف أن كتبت منذ قرابة الستة أعوام مقالاً في صحيفة الشرق السعودية عنونته بـ" شيوخ فتاوي الجهادي المضللة ...اعتذروا "، حيث طالبت فيه رموز التيار الصحوي الخمسة بوجوب الاعتذار العلني للشعب السعودي، خاصة أمهات الضحايا الذين قضوا في حروب ماعُرِفَ بالجهاد الأفغاني في ثمانينات القرن الماضي.
 
ولو تأملنا اعتذار القرني الآن فإنني أجده دالاً على شجاعة أدبية منه وإن جاء متأخراً كثيراً أو حتى لو لم يرضي هذا الاعتذار خصومه من أنصار التيارات الأخرى، أو أغضب مريديه ورفقاءه من الصحويين القدامى الذين رأوا في اعتذاره هذا رِدّةً عن ما آمنوا به لعقود، وتبنوه كمنهج تصحيحي للمسار التديني السعودي الذين كانوا يرونه ضالاً وعلى غير هدى وفقاً لوجهة نظرهم الصحوية الخاصة آنذاك.
 
كما أن هذا الاعتذار في رأيي هو أمرٌ يحسب له لا عليه، فهو- أي القرني - قد تحمل في شجاعة أدبية أخطاء وكوارث مجايليه من الصحويين، بالإضافة لذنب إصدار العديد من الفتاوي المضللة في حين التزم رفقاءه الصحويين الصمت، ولكون نظرية التاريخ تقول بأن كل ثيولوجيا دينية أو أيديولوجية سياسية كانت أم دينية مسارها للتفكك والانحسار، لتنبني على آثارها أيديولوجية أخرى قد تكون أشد تطرفاً منها وأشد فتكاً بالمكون البنيوي التصالحي للمجتمع، أي بمعنى أن التقويض وإعادة التّوَلُد الفكري هي سنة كونية.
 
لذا فقد كان السقوط المدوي للصحوة يمثل حتمية لاسبيل لدفعها، خاصة بعد إنقلابها على السلطة السعودية وتبني نهج تصادمي كان يمثل محاولة انقلابية هدفت للإطاحة بكياننا السعودي المسلم المسالم، من أجل إقامة وهمهم المتشكل على فكرة إعادة متتالية الزمن الوجودي إلى فترة ما قبل الأربعة عشر قرنا الماضية، ولقد كان هذا السقوط مدعاة لكي تقوم على انقاضه القاعدة كما كان في ذات الوقت إيذاناً بولادة حركة داعش الإرهابية.
 
بقي أن أوضح أمراً قد يجهله الكثير، نظراً لكوني كنت أحد شهود تلك المرحلة الحرجة والجدلية من تاريخنا السعودي المعاصر، تحديداً حينما كنت طالباً في السنة النهائية بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع مدينة أبها، و كان القرني حينها محاضراً في ذات الجامعة حين تم تكفيري وآخرين ومن ثم اضطرارنا للخروج من سكن "بدر" الذي كان مأوى لغالبية الطلبة الصحويين، جراء رفضنا متابعة هؤلاء الراديكاليين في نهجهم الصحوي التكفيري المأفون.
 
إذ إن ما أرغب في إيضاحه، هو أن الكثير من رموز وأتباع تيار الصحوة قد غيروا جلودهم لاحقاً، وهذا الأمر ليس باعثة قناعة منهم بخطأهم التاريخي وبعدم صوابية أيديولوجيتهم الحركية التكفيرية المتطرفة، لكن من باب "التقية" الدينية ليس إلا. 
 
في حين أنه وعلى الجانب الآخر، فإن الكثير من أتباع التيار الليبرالي والعلماني في الداخل السعودي بل وأكثرهم تطرفاً في ليبراليته، قد كانوا في مرحلة ما من صباهم وصدر شبابهم من المغرر بهم من قبل رموز الصحوة، جراء ضعف شخصياتهم وخوائهم الفكري ، وهو ما دفعهم لمتابعة رموز الصحوة في توجهاتهم والسير في ركابهم. إلا إن صدمتهم الفكرية في الصحوة وتبينهم لأهدافها الخفية لاحقاً قد دفعهم لتبني نظرة شوفونية وموقف عدائي من كل ماهو لاهوتي على المطلق. 
 
وختاما ، أجدني أقول بأني لا أهدف من كتابة مقالتي هذه للدعوة لتطبيق "مكارثية"، على مختلف التيارات والمناهج والأيديولوجيات في الداخل السعودي، فالجميع يعلم بأني لم أكن يوماً تحريضيا وإنما كاتب ومفكر توافقي، لكني هدفت للتوعية ليس إلا. 
 
وعليه ومن مكاني هذا فإنني ادعوا كافة الأسر السعودية للحرص ومتابعة الأبناء والبنات كي لايقعوا في براثن التيارات التكفيرية على مختلف أشكالها وأنواعياتها والتي تعد داعش مرحليا إحداها، كما أني أطالب في ذات الوقت المؤسسة التعليمية وكذلك الإعلامية باختلاف أيقوناتها التعبيرية وقبل ذلك المؤسسة الدينية ممثلة بمساجدها ومراكز الوعظ لديها في القيام بأدوارهم المفترضة والمتمثلة في توعية الأجيال بخطر الراديكاليات ونهج الحركيين، سعياً للحيلولة دون وقوع أبناءنا وبناتنا في حبائل التيارات التكفيرية مجدداً. 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق