المشروعات القومية.. منسية في الأعمال الفنية

السبت، 25 مايو 2019 01:00 م
المشروعات القومية.. منسية في الأعمال الفنية
العاصمة الإدارية الجديدة
عادل السنهوري

لدينا أكثر من مشروع قومى يجب توثيقه غنائيا ودراميا وملحميا أثناء العمل فيه

وقف الشعب بسبب الفن خلف قيادته وساهم بفاعلية فى المجهود الحربى وجمع الأموال والتبرعات كرمز للتوحد والصمود

عندما تأتى سيرة المشروعات القومية فى مصر والتغنى بها، يقفز فى أذهاننا وفوق ألسنتنا فى الحال أغانى الموسيقار محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم وفريد الأطرش وشادية ومحرم فؤاد، وغيرهم من جيل العمالقة الذين عبّروا بأغانيهم الوطنية وفنهم الراقى عن المشروعات الكبرى فى مصر.. وما زال مع كل افتتاح مشروع جديد على أرض مصر فى السنوات الأخيرة نلوذ إلى صوت «الست»  وغناء «حليم» وشدو الـ«شادية» وبهجة «فريد» وحماس «عبدالوهاب».

لم يكن دور الفن فى مصر بعُزلة عن المشهد السياسى والمجتمعى فى المحروسة زمن الخمسينيات والستينيات وحتى الأربعينيات، حيث سارع كبار الفنانين والسينمائيين إلى تقديم أعمال فنية بديعة لتوثيق حدث تأميم القناة وبناء السد العالى وتمجيد العمال المصريين فى كل المشروعات القومية فى التصنيع والمدن الجديدة والزراعة والتعليم وغيرها.
 
ما زالت هذه الأعمال باقية فى الذاكرة والوجدان ونرددها مع كل افتتاح للرئيس السيسى لكل مشروع عملاق، وآخرها مشروع محور روض الفرج والجسر المعلق الأضخم فى العالم.
 
أكثر من نصف قرن وما زالت أغانى حليم وأم كلثوم وعبدالوهاب ورشدى وشادية، معبرة عن الحالة الراهنة من عملية البناء والتنمية التى تعيشها مصر.
 
لكن أين كبار فنانى الجيل الحالى وصناع الدراما والسينما من أضخم عملية تنمية وبناء وعمران فى مصر طوال تاريخها الحديث والمعاصر؟
 
هل التفاعل مع هذه المشروعات من فنانينا الحاليين أقل من تفاعل فنانينا فى الماضى؟ ما الذى تغير وتبدل؟
 
أغانى حليم الذى أطلق عليه «مطرب المرحلة» ومؤرخ ثورة يوليو الغنائى، ما زالت الشاشات الفضائية تمتلئ بها مع كل افتتاح جديد «صورة صورة كلنا كده عاوزين صورة» وأيضا أغانى الست «حق بلادك.. دوس على كل الصعب وسير».
 
لم يتوقف الأمر عند حد الغناء فى الاستديوهات المغلقة من فنانين الماضى بل شاركوا العمال الغناء فى مواقع العمل، وما زلنا نتذكر أغنية حليم «حكاية شعب» وهو يرتدى ملابس العمال فى السد العالى، والعمال يرددون وراءه «قلنا هانبنى وادى احنا بنينا السد العالى».
 
ويحكى «حليم» بصوته قصة السد التى وثقت له فنيا بكلمات أحمد شفيق كامل وألحان كمال الطويل:
 
إخوانى تسمحوا لى بكلمة.. الحكاية مش حكاية السد
حكاية الكفاح اللى ورا السد.. حكايتنا احنا
حكاية شعب.. شعب للزحف المقدس قام وثار
شعب زاحف خطوته تولع شرار
شعب كافح وانكتب له الانتصار 
فى حين قدمت الراحلة أم كلثوم أغنيتها «قصة السد»، والتى غنتها فى حفل جامعة القاهرة يوم 26 نوفمبر 1959 بمناسبة بناء السد العالى، وتقول كلماتها:
كان حلما فخاطرا فاحتمالا ثم أضحى حقيقة لا خيالا
عمل من روائع العقل جئناه بعلم و لم نجئه ارتجـالا
إنه السد فارقبوا مولد السـد وباهوا بيومه الأجيــالا
يفتح الرزق وهو سد فينساب جنوبا فى أرضنا وشمالا
ويشيع الحياة تنبض نبتـا يغمر الجدب نوره والرمـالا
ويبقى النهر نزوة المسـرف يلهـو فينثـر الأمـوالا
وكانت أول أغنية قدمت بعد إنشاء السد العالى، هى «جنبنى السد» ويغنيها «مجموعة من الرجال»، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى التى قدمها كبار الفنانين منهم نجاة فى «سد عالى»، ومحمد عبدالمطلب بـ«الله يا سد عالى»، أغنية شادية «بلد السد»، وسعاد محمد وقصيدتها «يا عمال السد»، كما قدم الراحل محمد عبدالوهاب أغنية «ساعة الجد».
ورغم كل ما حمله مشروع السد العالى من إنجاز وتحقيق أحلام المصريين بعد كوابيس عاشوا فيها سنوات طويلة بين الخوف والانتظار فى واقع «أسود»، فالسينما أيضا وثقت لهذا العمل من خلال أفلام تسجيلية أو روائية. 
ومن الأفلام التى تناولت ذلك فيلم «الحقيقة العارية» الذى لعبت بطولته الفنانة ماجدة، والراحل إيهاب نافع، وتدور أحداثه فى إطار قصة حب تنشأ بين مرشدة سياحية ومهندس يعمل فى السد العالى، ورغم أن العمل من المفترض أن أحداثه تدور عن هذا الحدث إلا أنه لم يرتكز بالدرجة الأولى عليه باستثناء مشهد واحد يقوم من خلاله المهندس بشرح كيفية أداء وعمل السد العالى.
وهناك أيضا فيلم آخر بعنوان «الناس والنيل»، من إخراج يوسف شاهين وبطولة عماد حمدى وصلاح ذو الفقار، والذى تبدأ أحداثه بتحويل مجرى نهر النيل عام 1964، ثم تبدأ شخصيات عديدة فى تذكر الماضى، من خلال قصة طبيب يلتحق بالعمل فى السد العالى من أجل خدمة العاملين فيه، لكن زوجته «نادية» وهى فنانة تشكيلية ترفض الانتقال معه، فى حين أن والدها المهندس يضطر للسفر هناك، ما يجعلها تغير وجهة نظرها.
ولم يكن الفن التشكيلى والرسم بعيدا عن الحدث، فقد ساهم كبار الفنانين بأعمالهم الفنية لتجسيد العمل والتوثيق له.
هذه الأعمال كانت عبارة عن حالة من «الحشد الإيجابى» وغير المباشر للمصريين التى كان يقوم بها الفن المصرى.
فلماذا لا نقوم بذلك الآن ونحن نرى بأعيننا مشاريع ربما تفوق فى جدواها السد العالى نفسه، فأغانى الستينيات جمعت المصريين خلف «الحلم» وخلف القيادة السياسية، فكيف إذن لا نفعل جزءا مما فعله فنانو وأدباء الستينيات، مع مشروعات الدولة الحالية؟
لا يكفى فقط ما تقدمه بعض جهات الدولة حاليا من الأفلام الوثائقية والمعلوماتية عن المشروعات القومية التى تقوم بتنفيذها، وقد يتم عرض بعضها أمام الرئيس فقط. 
علينا أن نفكر ويفكر فنانونا معنا والكتاب وصانعو الدراما أو القنوات التى تقوم بإنتاج مسلسلات الدراما حاليا على تنفيذ مسلسلات تنسج قصصا وحكايات أبطالها من هذه المشروعات، فالعاصمة الإدارية والجلالة وأنفاق قناة السويس والمشروعات الصغيرة والصوب الزراعية، مليئة بالقصص الدرامية والمحفزة والتى تقدم قيما أصيلة غفل عنها الجميع فى الدراما والسينما فى السنوات الأخيرة.
للأسف التليفزيون المصرى بكل إداراته يقف متفرجا مثلنا على الإنجازات والمشروعات الكبرى ويجعلنا نترحم على أيام قطاع الإنتاج والمرحوم المبدع ممدوح الليثى، والذى أنتج أفلاما نافس بها الأفلام السينمائية، فى فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، ومنها أفلام تاريخية توثيقية مثل «ناصر 56» أو مسلسل «أم كلثوم» وغيرهما.
هل هى عملية استسهال والخوف من تكلفة الإنتاج؟  
لا أتمنى أن تكون الإجابة هنا بالإيجاب حتى لا نتهم صناع الدراما والسينما بأنهم  لا يهتمون بقضايا مجتمعهم وتطوراته ، وأن المشروعات القومية الجديدة التى أعادت الحياة إلى مصر والمصريين وفتحت ملايين الأبواب للرزق ليست ملهمة.
ما حدث ويحدث على أرض مصر وللشعب المصرى فى السنوات الخمس الأخيرة يشبه المعجزة فى كل المناحى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكل ذلك كان يحتاج إلى الدعم الفنى والثقافى حتى يعلمه الشعب ويتفاعل معه ويغنيه مثلما فعل مع فنانى الستينيات والخمسينيات.. فقد غنى الفلاح مع فرقة رضا ومحمد قنديل «فدادين خمسة خمسة فدادين»، «وع الدوار راديو بلدنا يذيع أخبار». 
فقد وقف الشعب بسبب الفن خلف قيادته واحتاج الدعم الشعبى وساهم الفن بفاعلية فى هذا المجهود مثلما حدث فى المجهود الحربى وجمع الأموال والتبرعات لصالح قواتنا المسلحة كرمز للتوحد والصمود والتلاحم بين الشعب والجيش والقيادة السياسية.
ربما لا ننكر أوبريت الأطفال «قناة السويس» فى افتتاحها وأنه سيظل علامة على افتتاح القناة.. لكن لماذا غابت السينما والدراما والغناء عاما كاملا من الحفر؟
لدينا أكثر من مشروع قومى يجب توثيقه غنائيًا ودراميًا وملحميًا أثناء العمل فى المشروع.
نتساءل كما تساءل الكثير من الكتاب، ماذا نحن فاعلون عندما ننتهى من مشروعاتنا القومية؟ ماذا ستقدم الأعمال الدرامية والغنائية التى وثقت لهذه المشروعات؟
مشروعات الأنفاق والطرق وتطوير العشوائيات والمدن الجديدة والعاصمة الإدارية وجبل الجلالة والمدن الصناعية والموانئ والجسور والكبارى واستزراع الصحراء وغيرها.. هل هناك عمل سينمائى ودرامى وثق هذه الأعمال فى سباق رمضان المحموم الذى نشاهده الآن. 
بصراحة.. كل من زار هذه المشروعات - وزرت بعضها بالفعل - يرى  الجهد الجبار والعرق وحجم العمل فى هذه المشروعات بسواعد مصرية يحمل كل منها قصة نجاح محفزة للشباب. 
فعلى سبيل المثال، هذه قصة واحدة هى قصة الشاب المصرى المهندس الذى يبلغ من العمر 24، وكان قائد حفار نفق قناة السويس بالإسماعيلية، الأول على كلية الهندسة، وكسر معدلات الحفر العالمية برقم جديد تم تسجيله باسمه، ألا يستحق تفاعل السينما والدراما مع قصته.
آلاف العمال والشباب فى المشروعات القومية.. غابت عنهم دراما هذا العام، رغم ما بهم من قصص وروايات وحكايات تستحق أن ترصد فى عمل درامى وسينمائى.  
لا أريد أن ألقى العبء على وزارة الثقافة فقط، وإنما هو دور مجتمعى شامل للنخبة الفنية والثقافية، فقد كان المثقفون والفنانون والإعلاميون وطلبة المدارس والجامعات يختلطون فى الماضى بالعمال فى مواقع العمال لتذكيرهم بأن الشعب معهم ويدعمهم.. وكثير من الفنانين أقاموا حفلات فى مواقع العمل وهو ما نريده الآن فى هذه المرحلة.   
الفنانون من الرسامين والتشكيليين عليهم دور أيضا بالمشاركة  برسومات ولوحات تشكيلية كاملة تجسد الجهد والعرق والتضحية للعمال. 
السينما المصرية لا بد أن تكون حاضرة فى قلب هذه المشروعات وليس فقط فى العشوائيات والفيلات الفاخرة.
لقد اهتمت السينما المصرية على مدار تاريخها بشخصية «العامل» بأشكالها كافة سواء من ناحية العامل المخلص أو الانتهازى الوصولى، وفى الحالتين يسعى العامل إلى الارتقاء الطبقى والصعود رغم اختلاف الوسائل والأساليب. ورصدت السينما أيضا التحولات التى طرأت على العمال باختلاف الظروف السياسية منذ أربعينيات القرن الماضى.. فيلم «العزيمة» للمخرج كمال سليم، من أوائل وأهم الأفلام فى الواقعية المصرية التى تعرضت لطبقة العمال والمهمشين، وقد تناول أيضا لأول مرة فى السينما المصرية أزمة المتعطلين التى تسيطر على الشباب.
وظهرت العديد من الأعمال التى تدور أحداثها فى المصانع وتتناول ظروف العمال النفسية والاجتماعية من أبرزها «لو كنت غنى» للراحل بركات عام 1942 و«العامل» لأحمد كامل مرسى عام 1943 وفيلم «ابن الحداد» ليوسف وهبى عام 1944، وفيلم «سفير جهنم» ليوسف وهبى عام 1945، و«الأسطى حسن»، وفيلم «الورشة» إخراج استيفان روستى.
 
وجاءت ثورة يوليو 52 لتضع العمال فى المقدمة واستجابت لها السينما بالعديد من الأفلام المهمة التى تعلى قيمة العمل والعمال مثلما حدث فى فيلم «العريس الخامس»، وفى فترة الستينيات من القرن الماضى تم إنتاج مجموعة من الأفلام التى تدعو إلى العمل مهما كانت نوعيته، فالبرنس فى فيلم «الأيدى الناعمة» يجد نفسه مضطرا إلى ممارسة عمل يرتزق منه بعد أن انتهت الطبقة التى ينتمى إليها، وفى فيلم «النظارة السوداء» لحسام الدين مصطفى وقف المهندس إلى جوار العمال يدافع عن مصالحهم، ورغم أن المهندس ينتمى إلى الطبقة الوسطى فإنه يقف ضد صاحب العمل من أجل عامل فقد ذراعه أثناء العمل، بالإضافة إلى فيلم «رصيف نمرة 5».
أيضا ظهر السائق فى فيلم «سواق نص الليل» والبائع الجوال فى «الفتوة» والحمال فى «باب الحديد» وبائع اللبن فى «جعلونى مجرما» وفى فيلم «الحقيقة العارية» للمخرج عاطف سالم عام 1963 نجد نموذجا من العمال يمارسون عملهم بحب أثناء بناء السد العالى، كما أن هذه الرؤية لم تتغير كثيرا فى الفيلمين اللذين أخرجهما يوسف شاهين عن بناء السد العالى وهما «النيل والحياة» 1968 و«الناس والنيل» 1972.
الأصل فى السينما أنها تهتم بقضايا الناس وهمومهم وهذا هو المطلوب والغناء أيضا مطلوب أن ينزل للعمال فى مواقعهم، مثلما حدث فى حفلات أضواء المدينة فى الماضى.. فعلى سبيل المثال فى 9 يناير 1960 أقيم حفل أضواء المدينة بأسوان للاحتفال بوضع حجر الأساس لبناء السد العالى، وحضره الرئيس جمال عبدالناصر، غنى عبدالحليم حافظ «حكاية شعب» حول قصة بناء السد، وقدم فريد الأطرش أغنية اسمها «السد العالى» اشتهرت باسم «يا أسطى سيد»، وهى مناجاة من الشاعر إسماعيل الحبروك للعامل المصرى للعمل، تحفزه على الهمة والنشاط فى سبيل إتمام بناء السد.
وغنت شادية أكثر من أغنية منها «أيامنا الحلوة جاية» كلمات صلاح جاهين، وألحان منير مراد، وغنى محمد قنديل أكثر من أغنية جميلة عن السد منها «حديد أسوان» كلمات عبدالفتاح مصطفى، وألحان أحمد صدقي، و«اعمل لنا مفتاح» كلمات صلاح جاهين وألحان أحمد صدقى، كما غنى محمد عبدالمطلب «على أسوان يا ريس»، وغنى محرم فؤاد «هنا فى مكان السد»، وقدمت هدى سلطان «طول ما انت معانا يا ريس»، وقدم محمد عبدالوهاب للإذاعة المصرية أغنية بصوته بعنوان «ساعة الجد» عن السد العالى للشاعر حسين السيد، كما غنت كل من مها صبرى وشريفة فاضل وإبراهيم حمودة أغنيات مهمة عن هذا المشروع القومى.
 
فهل مشروعاتنا القومية العملاقة الحالية لا تستحق حفلات من هذا النوع وأفلام سينما ودراما؟
أظنها تستحق وأكثر، وسوف ننتظر أعمال فنانينا وصناع الدراما والسينما عن هذه المشروعات وقصص العمل فيها.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق