ثم زالت وتلك عُقبى التعدى..

كم بغت دولةٌ علىّ وجارت.. اليوم ذكرى جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر

الثلاثاء، 18 يونيو 2019 07:00 م
كم بغت دولةٌ علىّ وجارت.. اليوم ذكرى جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر
توقيع اتفاقية جلاء الإنجليز عن مصر
كتب ــ محمد أبو النور

كم بغت دولةٌ علىّ وجارت، ثم زالت وتلك عُقبى التعدى، بهذه الكلمات الرائعة والبليغة والمُعبّرة، من قصيدة «مصرُ تتحدّث عن نفسها»، لشاعر النيل، حافظ إبراهيم، والتى كانت تشدو بها الراحلة، كوكب الشرق أم كلثوم، عن تكرار الاحتلال لمصر، والتعدى على ترابها الوطنى، لقرونٍ وسنوات طوال، ولأكثر من مُحتَل، غير أن كل هذا قد زال وانقضى، وستظل مصر حُرّة أبيّة عزيزة، عصيّة على الخنوع والانكسار، وفى مثل هذا اليوم منذ 63 عاماً، والذى يوافق الثلاثاء 18 من يونيو، تحلّ علينا ذكرى عزيزة وغالية على قلوبنا جميعاً، وهى جلاء آخر جندى «بريطانى» عن مصر فى عام 1956.

أحمد عرابى
أحمد عرابى


أوضاع مصر الاجتماعية تحت الاحتلال
وكانت المقاومة الشعبية المصرية، قد بدأت ضد الاحتلال، منذ دخول الإنجليز مصر عام 1882م، واستمرت هذه المقاومة، حتى التوقيع بالأحرف الأولى، على اتفاقية جلاء الجيش الإنجليزى فى 27 يوليو 1954م، والتوقيع النهائى لها فى أكتوبر من نفس العام، وقد سجّل خروج قوات الاحتلال البريطانى من مصر، بعد استعمار استمر لأكثر من 63 عاماً و9  أشهر و7 أيام، عدة ثورات ومقاومة مستمرة من جانب الشعب المصرى، لم تهدأ جذوتها إلاّ بخروج المُحتلّ البريطانى، عن كامل التراب الوطنى المصرى، كثورة أحمد عرابى ضد غزو الأساطيل والجيوش البريطانية، وثورة 1919 الوطنية، التى قادها سعد زغلول، وانتفاضة الشعب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وإضراب جميع الطوائف، بمن فيهم ضباط الشرطة، الذين اعتصموا بنواديهم فى أكتوبر عام 1947 وأبريل 1948، والكفاح المسلح ضد القوات البريطانية، فى قناة السويس.

سعد زغلول
سعد زغلول

 

عقب رفع الأحكام العرفية، وبعد انتهاء حرب فلسطين، واستمرار هذا الكفاح، بعد اندلاع ثورة 23 يوليو عام 1952، إلى أن تحقق الجلاء الكامل، يوم 18 يونيو 1956م، بخروج آخر جندى، من جنود الاحتلال البريطانى عن مصر، وإذا تحدّثنا عن هذه السنوات، وما تجرّعه المصريون من ويلات وعذابات وآلام الاحتلال، فلن تكفِ فى هذا المجال المجلدات والمُجلدات.

وقد كتب المؤرخون وأفاضوا فى ذلك الكثير والكثير، ولكننا سوف نُذكّر فقط، بمجمل ما كان يسود فى مصر، خلال فترات وسنوات الاحتلال، من خلال واحدة، من أهم الدراسات التى ترصد بكل دقّة هذه الفترة، وهى دراسة للمؤرخ الكبير والراحل العظيم، الدكتور رؤوف عباس، تحت عنوان «الحركة الـوطنية في مصر 1918ــ 1952»، والتى يوضح فيها، أن نسبة المعدمين من سكان الريف، كانت تبلغ 76% عام 1937، وبلغت نسبتهم 80% من جملة السكان عام 1952م.

وكانت «البروليتاريا» المصرية أو «الطبقة العاملة» بشقيها،  الريفي والحضري من أبشع الطبقات الاجتماعية معاناة من الأزمة الاقتصادية، التي تفجّرت في العالم الرأسمالي، في نهاية العشرينيات، وامتدت آثارها إلى مصر، وكانت الحياة الديمقراطية وقتها، على عكس ما كان يُشاع عنها من ازدهار في الحقبة الملكية وتحت الاحتلال.

حيث يكفي فى هذا الجانب النظر إلى شروط الترشيح لمجلسي النواب أو الشيوخ، وسيدرك الجميع، أن هذه المجالس كانت لا علاقة لها بالشعب المصري، وأنها صُنِعت لتعبر عن طبقة معينة، فلم تكن أغلبية الشعب، تملك شروط الترشيح، من ضرورة امتلاك أراضى كبيرة أو أرصدة في البنوك وغيرها، فضلاً عن تلاعب القصر بالحكومات والأحزاب، وجميعها لم يحقق لمصر جلاء الأجنبي أصلاً .

عمر مكرم
عمر مكرم


نهب خيرات وثروات المحروسة
وإذا كان هذا هو الوضع الاجتماعى، للفقراء فى مصر، خلال سنوات الاحتلال البريطانى، كما رصدته الدراسة التاريخية، فإنّ مركز التأريخ العسكري، التابع للقوات المسلحة، قد سجّل عن تلك الفترة، أن الجيش قدّم نصف مليون شهيد مصري، وبعضهم قال إن الرقم يمكن أن يتضاعف، وهو رقم يرصد شهداء مصر، ممن أُرسلوا إلى الحربين العالميتين، واستشهدوا في أوروبا، ودُفنوا هناك.

وهو رقم كبير جداً جداً قياساً بعدد السكان وقتها، إذ يساوي بأرقام اليوم، استشهاد 7 ملايين مصري في حرب واحدة، كما شاركت مصر كدولة مُحتلّة من قبل انجلترا، فى تعويض بلجيكا عن اتخاذها معبراً من ألمانيا، لاحتلال فرنسا وقتها، وكان التعويض الرمزي لبلجيكا حلاً من الدول الخاضعة لبريطانيا عدو ألمانيا الأول، فأرسلوا أموالاً رمزية، بلغت من مصر ربع مليون فرنك سويسري، كان الملك يخسر أكثر منها في سهرة قمار واحدة، كما كان المصرى، فى ظل الاحتلال غريبٌ فى وطنه.

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

حيث كانت مصر حكراً على الباشاوات والبكوات والجاليات الأجنبية، وهؤلاء هم من كانوا يدخلون الأوبرا والسينمات ويستمتعون بالحدائـق الغَـنَّاء، وإذا ظهر أحد المصريين البسطاء، في محيط هذه الشوارع، فهؤلاء من الخدم والحاشية، ممن أنعم الله عليهم بنعمة العمل خادمين، عند أحد الباشاوات، بل كانت هناك شوارع في القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية، حكراً على الأجانب.

ويُمنع المصريون من دخولها، حتى لا يعكروا مزاج السادة الباشاوات والخواجات، وكان الباشاوات يعيشون عيشة رغدة كريمة، وكانوا يرتدون أحدث الموديلات، قبل أن تظهر في أوروبا، بل كان منهم أهل الخير ممن يمنحون الخدم والحشم بواقي الطعام وبواقي الملابس، وأي بواقي أخرى، وفي هذا التوقيت، كان المشروع القومي للمصريين، هو مكافحة الحفاء.

حيث كان حصول مصري على حذاء يماثل حصوله على سيارة اليوم، كما كانت شركة قناة السويس، فى ظل الاحتلال، وقبل تأميمها، دولة داخل الدولة، كما تشير الدراسة التاريخية، ولها عَلَمٌ خاص، وشفرة خاصة، وجهاز مخابرات خاص، وحى خاص، مُحرّم دخوله على المصريين، وكان رئيس الشركة، يُعامل كرؤساء الدول، محاطاً بكل مراسم التبجيل والاحترام، ولا يجرؤ مسئول مصري على مُحاسابته عن أى شئ.

جانب من توقيع اتفاقية جلاء الإنجليز  عن مصر
جانب من توقيع اتفاقية جلاء الإنجليز عن مصر

وتثبت الوثائق الأمريكية و الفرنسية والإسرائيلية، أن هذه الشركة دفعت من أموال مصر 400 مليون جنيه استرليني، لدعم الجهد العسكري للحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، كما قامت بدفع مبالغ مالية طائلة، تقدر بعشرات الملايين، للحركة الصهيونية في فلسطين، كتبرعات داعمة للمشروع القومي لليهود وقتها، وبعد قيام «إسرائيل».

أقامت معها إدارة شركة قناة السويس، مكاتب للتنسيق المعلوماتي والمخابراتي، بالتعاون مع جهاز الموساد، كما واصلت دفع الأموال للكيان الصهيوني دعما له، وكانت خططها المستقبلية كلها، مرتكزة ومبنية على تمديد عقد امتياز القناة لمدة 99 عاماً جديداً، غير أنه تم توقيع اتفاقية الجلاء، مابين جمال عبد الناصر، كرئيس وزاء مصر، ووزير الدولة للشئون الخارجية البريطانى،  أنتونى نتنك، وبالفعل رحل آخر جندى بريطانى عن مصر فى 18 يوينو 1956.

وقد تناولت هذه الأوضاع دراسات عديدة، كان منها هذه الدراسة، ودراسات الدكتور يونان رزق والدكتور عاصم الدسوقى، وكتاب شهدى عطية الشافعى «تاريخ الحركة الوطنية»، وفى النهاية، رحل الاحتلال البريطانى، وظلّت وستظل مصر شامخة على مر الزمان. 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق