من مستنقع للبعوض إلى مركز مالي عالمي.. سنغافورة تحتفل بيومها الوطني

الجمعة، 09 أغسطس 2019 07:00 م
من مستنقع للبعوض إلى مركز مالي عالمي.. سنغافورة تحتفل بيومها الوطني
شيريهان المنيري

لم تكن «النهضة» يومًا مجرد مصطلح يتم المتاجرة به هنا وهناك أو يتم تداوله كنوع من الاستهلاك الإعلامي ومحاولات التأثير على الرأي العام من خلال رسم صور مغايرة عن الواقع في محاولة للتستر على الحقيقة المؤلمة التي يجب مصارحة الناس بها، فهم دائمًا الشركاء الأهم في بناء الأوطان.

بلدان مختلفة حول العالم شهدت نجاحًا تتحاكى به الأجيال على مدار التاريخ وستظل تجربتها باقية أبد الدهر، لما حققته من نجاح في مسيرة التحديات حتى وصلت إلى «النهضة» المرجوة، والتي حولتها إلى رقم صعب في المعادلات الاقتصادية والسياسية على حد سواء.

ومن الطبيعي أن تكون لأي نهضة عوامل تسببت بها، وشخص يحمل المواصفات التي تدفع به بأن يكون قائدًا للتغيير والنجاح الذي تشهده بلاده؛ فهو دائمًا البطل في هذه الرواية، ويكون خالص الحب والوفاء لبلاده وشعبها.

وفي الواقع هناك عدد من النماذج التي نجحت في التحول كُليًا مما كانت عليه من حضيض حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن في عالم القوى العظمي والدول المتقدمة في مجالات مختلفة حتى باتت نموذجًا يسعى الآخرون للوصول إليه.  

ويتوافق اليوم الجمعة 9 من أغسطس ذكرى اليوم الوطني لسنغافورة تلك الجزيرة الصغيرة ذات المساحة التي لا تتعدى الـ 700 كيلو متر مربع، وكان يملؤها البعوض قبل أن تتحول إلى أقوى اقتصادات العالم على يد أول رئيس وزراء لها جاء بانتخابات ديمقراطية؛ وهو لي كوان يو.

ما فعله «يو» لازال حديث الكثيرين حتى يومنا هذا، فلا تخلوا المؤتمرات أو المحاضرات أو المقالات التي تتناول مضمونًا عن آليات النهوض بالدول من اسمه وملامح تجربته وما قدمه لبلاده من عطاء حتى جعلها دولة ناجحة ومستقلة، بعد أن كانت مستعمرة بريطانية فقيرة، وقررت ماليزيا فيما بعد الانفصال عنها، وفي ظل أن شعبها لا تجمعه لغة أو قومية أو تاريخ مشترك. وبحسب عدد من التقارير التي اهتمت بعرض إنجازات «يو» في سنغافورة؛ فقد بكى كثيرًا بعد القرار الماليزي في عام 1965، ما عكس حبه الشديد لبلاده وحرصه عليها ومستقبلها.

ويبدو أن مؤسس نهضة سنغافورة تعهد منذ لحظة بكاءه بأن تصل بلاده إلى ما هي عليه الآن، من خلال محاور محددة قائمة على الاعتماد على الذات دون الحاجة إلى آخرين. وعلى الرغم مما واجه سنغافورة منذ تلك اللحظة من فوضى وفقر وتخلف وتدهور صحي وبطالة ومن ثم عدم استقرار إلا أن «يو» استطاع مواجهة جميع هذه التحديات؛ بداية عبر سنّ وفرض قوانين وعقوبات صارمة تجاه المخالفين، ولذلك سُميت سنغافورة ببلد القوانين.

وكانت وجهة نظر «يو» قائمة على مبدأ رئيسي وهو الاستثمار في الإنسان السنغافوري وتأهيله من خلال التعليم كمحور أساسي وغرس المبادئ والقيم التي من شأنها القضاء على الفساد. فقد وعت إدارة البلد الصغير منذ اللحظة الأولى لانفصالها؛ ضرورة الاعتماد على فكرة استغلال المتاح، في ظل وضعها الجغرافي وفقر مواردها الطبيعية ولذلك اتجهت بشكل رئيسي إلى تطوير منظومة التعليم والتي نجحت سنغافورة بالفعل في ابتكارها حتى باتت تمتلك واحدة من أفضل أنظمة التعليم في العالم محققة نجاحًا باهرًا في هذا القطاع. واتبعت سنغافورة نظام التعليم التنافسي والهادف إلى خلف فرص متساوية للجميع في التعليم دون النظر لطبقات اجتماعية أو إمكانيات اقتصادية وما إلى ذلك.. فالجميع على حد سواء. كما اهتمت سنغافورة بالاستعانة بنخبة من الكفاءات للعمل في الحكومة، مع الدراسة الجيدة والمتأنية للقرارات والسياسات الجديدة قبيل تنفيذها إلى جانب الاستفادة من التجارب الناجحة حول العالم.

ودائمًا ما تحتل المؤسسات التعليمية بسنغافورة المراكز الأولى في التصنيفات العالمية أو التنافسية التي تجريها بعض من المؤسسات أو مراكز الأبحاث الشهيرة، ما يؤكد على أنها جميعًا قائمة على أساس جيد وأن ما تم غرسه قديمًا يُحصد ثماره حتى وقتنا هذا.

الاهتمام بالقيم والعادات والتقاليد مع مراعاة الحداثة والأخذ منها ما يناسب المجتمع السنغافوري وتوجهاته، جاء عاملًا أساسيًا في نهضة سنغافورة إلى جانب التعليم، حيث كان «يو» مؤمنًا بأن الثروة الحقيقية في العقول وهو ما يتطلب الجمع بين كل هذه الأمور.

القيم تميز بها القادة والشعب في سنغافورة على حد سواء، فهي حافظت على النظرة الكونفوشسية والتي تعني بأن الأسرة هي أساس المجتمع، ما ساعد بشكل رئيسي في تنحي  نزعة الأنانية عن الأفراد، وبالتالي أصبح سلوك الفرد مهيئًا لتأسيس نهضة فعلية.

تغيير سلوكيات الشعب مثل حجر زاوية في تأسيس نهضة سنغافورة، ولتحقيق هذا الهدف تعاونت الحكومة مع فريق مسؤول عما يُسمى بالرؤى السلوكية للمواطن، ليكون معنيًا بتطبيق نظرية التحفيز على السياسات الحكومية، والتي تقوم فكرتها على أن الأفراد يمكن توجيههم لاتخاذ قرارات جيدة دون مصادرة حريتهم في الاختيار.

وتم الاهتمام بغرس قيم الانتماء والولاء بين الأفراد، الأمر الذي كان يمثل تحديًا كبيرًا في ظل اختلاف التركيبة الديمغرافية في المجتمع السنغافوري. وانتشرت حملات وسُبل التوعية في مسارات متعددة شملت الصحة ونظافة البيئة وتنظيم الأسرة وآداب التعامل مع الآخرين.

«يو» اعترف في أحد الحوارات الصحفية التي تعود إلى الثمانينات بصحة ما كان يوجه له من اتهامات وانتقادات حول تدخله في الشؤون الخاصة للمواطنين، مؤكدًا أنه لو لم يفعل ذلك لما وصلت سنغافورة لما هي عليه من تطور، وقال: «لولا تدخلنا في كل صغيرة وكبيرة من حياتهم بداية من جيرانهم إلى عاداتهم وسلوكياتهم ولغتهم، لما حققنا هذا التقدم الاقتصادي.. نحن نحدد ما هو الصواب».

وعلى الصعيد الاقتصادي، جاء القضاء على الفساد والتطهير كأولى الخطوات التي اهتم بها «يو»، إلى جانب وضع سياسات واضحة لجذب الاستثمارات، وقامت الحكومة السنغافورية بإنشاء مجلس التنمية الاقتصادية، ليكون قائمًا على وضع تلك السياسات وتوفير البيئة الآمنة والملائمة للمستثمرين، ولتخفيض معدلات الضرائب وإزالة أي عقبات يمكن أن تواجه تلك المنظومة. أيضًا دعت سنغافورة الشركات العالمية للاستثمار فيها دون أي رسوم أو قيود، ما عمل على تحجيم نسب البطالة وتعزيز التنافسية بين الشركات المحلية والعالمية. واعتمدت سنغافورة على استراتيجيتين الأولى هي استيراد التكنولوجيا المتطورة لزيادة إنتاجية رأس المال والعمالة من خلال تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتوظيف المواهب الأجنبية كأحد وسائل نقل المعرفة. والثانية اعتمدت على توفير البيئة القانونية والفكرية والحوكمة الرشيدة للنمو. هذا إلى جانب الاعتماد على ما يُسمى بالبيروقراطية المهنية صغيرة الحجم والقائمة على مهنية وكفاءة عالية. كما كان للقطاع العام دورًا هامًا في قطاع الأعمال كمستثمر ومحفز للتنمية الاقتصادية.       

ومثل السجن أو الإعدام إجراءًا حاسمًا تجاه أي شخص يتم القبض عليه أو ضبطه في واقعة فساد أو غيرها من الأفعال المجرمة كتجارة المخدرات على سبيل المثال‘ إلى جانب قمع النقابات العمالية المستقلة وتوحيد ما تبقى منها تحت مُسمى «المؤتمر النقابي الوطني». وعلى الرغم مما اتسم به «يو» وإدارته من صرامة شديدة إلا أن هذا هو ما وفر البيئة المناسبة لازدهار سنغافورة، حيث الشفافية ووضوح الرؤية.

من هو لي كوان يو؟

«يو» هو بطل رواية نهضة سنغافورة الحديثة الذي نجح في تحويلها من دولة صغيرة تابعة وفاشلة على جميع الأصعدة إلى واحدة من النمور الآسيوية وأحد أبرز التجارب العالمية التي يُحتذى بها.

لي كوان يو
لي كوان يو

 

تحدى «يو» جميع العقبات والانتقادات والأصوات التي شككت في قدرته على النجاح، متبعًا سياسات صارمة تعتمد على قوانين وإجراءات لا تعرف التهاون تجاه المتجاوزين وكل من يُعيق مسيرة التنمية التي رسمها في مُخيلته.

«مقاتل الشارع».. هكذا وصف «يو» نفسه في إحدى كتاباته.. تميز بشخصية قوية وواقعية وعقلية مُميزة قادرة على اتخاذ القرارات الصائبة في التوقيتات الصحيحة، إلى جانب قدرة على ضبط النفس والتحكم في الأعصاب في أوقات الأزمات والمشاكل. وكان مدركًا لما تحتاجه بلادة لتحقيق النهضة المرجوة وأن التعليم والقيم والأخلاق والقضاء على الفساد هي العوامل الأساسية التي تحتاجها غالبية المجتمعات لتحقيق التقدم والتطور.

ولد وسط أسرة صينية في عام 1923 كانت تعيش في سنغافورة، ودرس القانون وحصل على شهادة متخصصة في هذا المجال من جامعة كامبريدج البريطانية. وعاد لموطنه فيما بعد ليعمل في سلك المحاماة لعدة سنوات.

تولى رئاسة الوزراء في سنغافورة وهو في عمر الـ35 عام في عام 1959، ليتنحى عن منصبه في عام 1990 ليبقى في مجلس الوزراء كمستشار فقط. ثم ترك المجلس تمامًا في عام 2011، معربًا عن وجهة نظره بضرورة إفساح المجال أمام الدماء الشابة الجديدة.

اشتهرت واحدة من مقولاته بأن «البقاء للأكفأ» كقول مأثور. واعتمد على هذا المبدأ في كثير من سياساته، وعلى الرغم مما كان يوجه له من انتقادات من قبل الغرب أحيانًا إلا أنه قال يومًا: «لا يهم ما يقوله الآخرون عني، ولكن المهم ما يقوله السنغافوريون».

لي كوان يو رحل عن عالمنا في مارس من عام 2015 عن عمر يناهز الـ91 عامًا بعد رحلة طويلة من الكفاح والتحدي والبناء والإنجاز ووسط حزن كبير خيمّ على الشعب السنغافوري في ظل رحيل أشهر زعماء القارة الآسيوية في القرن الـ20. لتبقى مذكراته في كتاب من جزأين بعنوان «قصة سنغافورة» لتوثق مسيرة حياته وما حققه لبلاده من طفرة هائلة في مجالات مختلفة جعلتها اليوم تجربة مميزة يسير على دربها آخرون.

 

  

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق