فخ الهيضة

الخميس، 12 سبتمبر 2019 01:50 م
فخ الهيضة
هبه العدوى

 
أجتاح وباء الكوليرا مصر في أوائل القرن العشرين ومنتصفه، كتب عن آلام المصريين ووجعهم الدكتور طه حسين، وتحدث أحمد حسن الزيات عن أن المأساة لم تكن فقط في الوباء، وإنما كانت أيضا في الجشع، وقال "وإنك لتعجب أن يكون في الناس من لا يشغل باله في الوباء إلا بالثراء، ومن طبيعة الإنسان إذا اكتنفته ظواهر المرض ومظاهر الموت أن يخشع قلبه وتزهد عينه".
 
سجل التاريخ "محمد العباسي"  كأول من رفع العلم المصري فوق أول نقطة حصينة من خط بارليف، وكان العباسي جسورا مؤمناً بحلمه في حق مصرنا في استعادة كبرياء حلمها في حرية أرضها.
 
قرية (القُرين بالشرقية ) كانت مسقط رأسه، وكانت أيضا مسقط رأس الشيخة حمدة، التى يعتقد أهالي القرية أن لها دور في التصدي لوباء الكوليرا، وجاءت في "رؤية" بالمنام لأحدهم كما يشاع آمرة أهالي القرية "ما تبنوش لي مقام"، لو بُني لها المقام قد تفقد صدق السيرة، وليست كل السير صادقة.. فقط السير تصدق عندما يصدق فعل أصحابها أقوالهم.
 
اجتاحت الهيضة (الكوليرا ) قرية القُرين، ومات ما يقرب من عشرة آلاف شخص من أصل عشرين ألف مريض، وأقتصر أخذ الفاكسين وقتها علي أهل النفوذ والثروة لارتفاع تكلفته .
 
*************
حسب الأكونوميست فإن "البلدان ذات مستويات الثقة المنخفضة نموها الاقتصادي يقل"، وهو ما وصفه الاقتصادي أليكس تابروك بأنه "فخ انعدام الثقة".
 
هنا أتخيل العباسي وهو يمضي قدماً مؤمناً واثقاً "مصدقاً حلمه" بأن مصر ستنتصر.. ماذا لو شك؟.. هل كان سيكتبه التاريخ رافعا للعلم، وماذا لو صار الشك وباء وقتها، هل كنا سنحتفل بنصر 73؟.
 
تقع المشكلة الأكبر في فخ انعدام الثقة، وفي هبوط الهمة وفقدان القدرة وانتشار ثقافة الخوف والكراهية والتي معها يقل إقبال الناس علي المشاريع الجديدة، وتضطر الدول لفرض سياسات تدفع مواطنيها لإجبارهم علي حركة رؤوس أموالهم بالإضافة لفرض ضرائب باهظة.
 
يقول تابروك "قد يكونون أكثر عرضة لدعم السياسات التي تعيد توزيع الثروة لصالحهم، مثل التغييرات في التجارة أو الضرائب مجتمعة".
 
فخ انعدام الثقة هو وباء الكوليرا الذي لا يري بالعين المجردة، وإنما يُري فقط في انتشار الكآبة والأمراض النفسية، وفي الخوف وثقافات مجتمعية مريضة وانتشار معدلات الطلاق وارتفاع صوت موسيقي الفوضي وشعبنتها وسيطرتها علي الذوق العام مهما اختلف المستوي الاجتماعي.. فهل ستتركنا "الهيضة الحديثة"  جثة هامدة بلا روح !!
 
جدد دمائك..  راجع بصيرتك .. بالحب والثقة فقط تُبني الحضارات.. قدماء المصريين لم يتركوا لنا معابد جوفاء، بل تركوا لنا جدرانا نقشوا عليها بأرواحهم الحرة المحبة إبداعا بقي خالدا منذ آلاف السنين حتي الآن، بقي لنا ملهماً.
 
سهل أن تؤسس سيرة يبني لك البعض بها مقاما، وصعب أن تترك سيرة خالدة صادقة يتناقلها البشر بينهم إلي يوم الدين، ولكل زمن مفرداته وأولوياته .
 
تظهر الكوليرا فقط عندما ينتشر "الماء الملوث" وتختفي مع انتشار "الماء النقي".
 
 
 
 
 
 
 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق