وجع الموت أم قسوة المرض؟

الثلاثاء، 04 مايو 2021 02:21 م
وجع الموت أم قسوة المرض؟
أيمن عبد التواب

أيهما أشد وجعًا، وأقسى ألمًا، وجع الفراق «الموت»، أم وجع المرض؟
 
هناك مَن يرى أنه لا توجد قسوة وألم أشد من سماع خبر وفاة عزيز لدينا، أب، أم، أخ، ابن، زوج، قريب، صديق.. فوفاة أحد من هؤلاء تكون بمثابة صدمة كبيرة، تحدث دويًّا هائلًا في نفس صاحبه، وتترك أثرًا في حياته لا يمكن محوه بسهولة، وقد تستحيل الحياة معه، في بعض الحالات.. بل إن بعضنا يتمنى الموت ليلحق بالفقيد، إذ يظن أن حياته قد تتوقف بفراق هذا العزيز!


صحيح.. الموت هو أحد الحقائق الثابتة في الكون.. وهو حق على كل كائن حي.. إلّا أنّه موجعٌ، مؤلمٌ، مفجعٌ.. ويترك ألمًا قد لا يمحى، حتى مع طول الزمن.. ولن يبقى لدى صاحب المصيبة إلّا ذكريات مع مَنْ فقدهم، فإن كان بارًا بهم، يدعو لهم في قبورهم بالرحمة والمغفرة والعتق من النار..

وعلى الرغم من ألم وقسوة الفراق، إلا أن الله- عز وجل- جعل أنعم علينا بنعمة النسيان، وجعلها كقطعة إسفنج تمتص الكثير من آلامنا، وتغسل الكثير من دموعنا.. فالنسيان نعمة عظيمة تجعلنا نتخطى احزاننا أوجاعنا، ونعود رويدًا رويدًا إلى طبيعتنا.. ونندمج مرة أخرى في الحياة بهمومها، وأفراحها، وأتراحها، ومآسيها.. وهكذا حتى يكتب الله النهاية المحتومة لكل إنسان، طال به العمر أو قصر.

لكن بالنسبة إليَّ، فإن قسوة المرض أشد وطأة من ألم الموت..  ولحظة المرض- خاصة لو كان مرضًا مزمنًا- هي أقسى لحظات الانكسار البشري، مهما كان المريض متماسكًا، صلبًا، قويًا، فتيًًا، جبارًا، عاتيًا؛ فالإنسان- بطبيعته- خُلِقَ ضعيفًا.. وقد تتعجب عندما ترى صاحب الجسد العملاق الذي يبث الرعب في قلوب الناس، يشكو من وخز إبرة لأخذ عينة من دمه مثلًا!

في الموت تكون قد عرفت مصيرك.. أما في المرض- خاصة لو كان مرضًا مزمنًا خطيرًا مثلًا- فأنت لا تعرف مصيرك على وجه الدقة.. لا تعرف متى سيمن الله عليك بالشفاء.. لا تعلم متى سيسكن الألم بعدما تتناول جرعة الدواء.. لا تعلم إن كان ستشرق عليك شمس جديدة أم لا..

وأقسى ما يتعرض له المريض هو إحساسه الدائم بالذنب تجاه مَنْ حوله، وخاصة أهل بيته والقائمين على رعايته وخدمته.. فهو يشعر بأنه السبب في «لخبطة» معيشتهم.. كل شيء في حياتهم يكون بحساب.. الضحك بحساب.. الصوت بحساب.. مشاهدة التليفزيون بحساب.. التحرك في الشقة بحساب.. الهزار بحساب.. دخول الحمام بحساب.. كل ذلك من أجل توفير الراحة للمريض، الذي قد يصرخ ويتلوى من شدة الألم، ولكن في صمت حتى لا يثقل على المحيطين به!

كانت أمي- رحمها الله- تقول لي إن أهل المريض هم المرضى «المريض مش هو صاحب الوجع.. إللي حوالين المريض هم التعبانين».. صَدَقَتْ أمي، فهأنذا أمر بتجربة مرضٍ مزمنٍ قاسٍ لا يرحم.. ورأيت بنفسي التغييرات التي تسببت فيها للمحيطين بي، وخاصة زوجتي، وأولادي، بارك الله فيهم..

فأنا عندما أكون في المستشفى، وبمجرد إحساسي بالألم أستدعي الطبيب أو التمريض، فيعطونني مسكنًا، وأدخل بعده في سبات عميق، تاركًا زوجتي يقظة تراقبني، خشية معاودة الألم مرة أخرى.. وحينما أعود إلى البيت تتضاعف مهمة زوجتي، التي تعلمت التمريض من أجلي، على الرغم من أنها كانت تخاف من خيالها.. وتسهر إلى جانبي تراقب درجة حرارتي بالترمومتر.. وتضع على جسدي كمادات المياه الباردة، وتعطيني الحقن المسكنة، وجرعات العلاج في المواعيد التي قررها الأطباء.. وووو وأشيأء كثيرة تفعلها من أجلي.. ولا تنسى أن تذاكر للأولاد وتؤدي واجباتها المنزلية على أكمل وجه!

ربما يرى بعضنا أن ما تفعله زوجتي «عادي جدًا»، وأنه واجب ومفروض عليها.. لكن أولاد الأصول هم مَن يفعلون ذلك.. فهناك آلاف القصص عن زوج تخلى عن زوجته، وزوجة تخلت عن زوجها لمرضه.. وأبناء تخلوا عن آبائهم وتركهم بسبب مرضهم.. فكما كانت تقول أمي: «البني آدم تقيل.. وإللي هيشيلك النهارده ما تضمنش يشيلك بكرة»، لذا كانت أبي يدعو دائمًا: «ربنا يخفف بينا»، وقد نالها، فقد توفي بعد أن صلى بالناس العشاء في المسجد، وعاد إلى البيت وتناول العشاء، ثم قابل ربه.. بينما كانت دعوة أمي: «ربنا ياخدني وتراب السكك على رجلي»، أي تقبض روحها دون أن تمرض، حتى لا تثقل على أبنائها، وقد نالتها.

ومِن حِكمة الله في خلقِه لِلمرض أنه لم يتركنا في التيه، بل أرشدنا إلى «الروشتة الإلهية»- إن جاز التعبير- وملخصها الفزع إليه وحده.. «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».

فاللّه- عز وجل- يُحب أن يلجأ العبد إليِه، وأن يطلب منه الشفاء بِالدعاء، ويُريد أن يرى يقين العبد وثِقته في الشِّفاء.. فاللهم اشف كل مريض، ولا تثقل بنا يا رب العالمين.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق