حمدي قنديل.. رحل قبل أن يعيش حياته الثالثة

الأربعاء، 07 نوفمبر 2018 12:38 م
حمدي قنديل.. رحل قبل أن يعيش حياته الثالثة
عادل السنهوري يكتب:

ورحل "رئيس التحرير".. صاحب أجمل وأجرأ "قلم رصاص".. رحل "الأستاذ" حمدي قنديل، مثلما رحل من قبله الخيّرون والطيّبون من الأساتذة، تاركين لنا ذكراهم الطيبة وسيرتهم العطرة.. مات عاشق القلم والكلمة، وعاشق عبد الناصر.
 
كنّا على موعد للقاء، الزملاء من تلاميذه ومُحبّيه، أكثر من مرة، لكن المرض وقف عنيدًا في وجه إتمام اللقاء.. وبقي الهاتف الوسيلة الوحيدة للتواصل معه والاطمئنان عليه من وقت لآخر.
 
ظلّ وفيًّا لقلمه وآرائه ومواقفه وانحيازاته، ولانتماءاته التي رأى البعض أنها مُتمترسة خلف حائط الخمسينيات والستينيات، ومُتوقّفة عند عصر زعيمه عبد الناصر.
 
ذات مرة سألته، في حوار صحفي سابق بعدما توقف برنامجه في دبي، عن حنينه وعشقة للزعيم الراحل، فردّ قائلا: "إذا كان الحنين إلى زمن عبد الناصر مرضًا فأتمنّى ألا أُشفى منه".
 
بسبب ذلك دفع أثمانًا باهظة، وكان دائمًا ضمن قائمة "الممنوع من العرض"، ثم تآمر عليه أيضًا المرض الذي طال معه شفاؤه حتى اشتقنا إليه.
 
جاءنى صوته آخر مرة حزينًا مُنكسرًا بعض الشيء، وأنا الذي تعوّدت عليه دائمًا قويًّا في حُجّته واثقًا من أدواته، رخيمًا عذبًا في صوته.. فقد انزلقت قدمه مرة أخرى في مكان الإصابة القديمة.
 
قلت له "طالت الغيبة.. نشتاق للطلّة الجميلة البديعة والمهيبة لك.. نشتاق إلى صوتك".. كان مُمتنًّا شاكرًا على ما كتبت عنه في صحيفة "صوت الأمة"، فرجوته أن يعود إلينا سريعًا سليمًا مُعافى.
 
في نهاية أكتوبر العام الماضي، كتبت مقالاً عنه بعنوان "حمدي قنديل.. نرجوك أن تعود لتعيش معنا للمرة الثالثة" بعدما أصدر مذكراته "عشت مرتين"، ثم داهمه المرض بعدها. 
 
هنا أُكرِّر بعض ما كتبت عنه أثناء فترة مرضه.. قلت إن الجميع يشتاقون إليه - من يختلف معه قبل من يتفق - ويرجونه أن يعود سالمًا من مرضه الذي أبعده عن قلمه وملايين المشاهدين والمتابعين له.. ويتمنّون أن يعود ليعيش للمرة الثالثة بينهم بتاريخه الإعلامي الممتدّ منذ بدايات الخمسينيات حتى الآن، حتى أصبح واحدًا من شهود العصر على التحوّلات والتغيّرات في مصر والوطن العربي والعالم.
 
حمدي قنديل "عاش مرتين" كما اختار عنوان مذكراته التي صدرت العام الماضي، من أول نشرة قرأها الإعلامي الكبير حمدي قنديل في «التليفزيون العربي» مع بدء إرساله عام 1960، مرورًا بنكسة 5 يونيو 1967، ولحظات تنحّي جمال عبد الناصر، ثم معارك الاستنزاف، وانتصار أكتوبر 1973، وصولا إلى احتلال العراق للكويت عام 1990، واحتلال العراق نفسه، ثم ثورات الربيع العربي.
 
"عاش مرتين" كما يقول، طولاً وعرضًا، أخذًا وردًّا.. فيهما الانتصار والانكسار، والصمود والحلم والإنجاز، وفيهما المفاجآت والمفارقات. هو من مواليد برج الجوزاء، يجمع بين التفتّح على الدنيا وانتمائه لجذوره المحافظة.
 
وُلد حمدي قنديل في منزل أسرة من الطبقة المتوسطة، وفي كنف أبٍ مُثقّف يعمل ناظر مدرسة، وأم مُتعلّمة. في قرية كفر عليم بمدينة بركة السبع في محافظة المنوفية، وترجع أصول عائلته لمحافظة الشرقية، فجده الأكبر قنديل خليل كان عمدة قرية المحمودية في مركز ههيا، وما زال مركز ثقل عائلته هناك. تنقّل في شبابه بين أجمل عواصم أوروبا. لم يُحرم من ممارسة أيّة هواية، وحينما كان يسمع عن مساوئ الشيوعيّة، كان والده يُحرّضه قائلاً إنّ الشيوعيّة هي العدالة الاجتماعية. في الكشّافة كان المشرف يُعلّمه عن الأديان المختلفة، ويصطحبه في جولات طويلة إلى الصحراء. بعد ثلاثة أعوام من دراسة الطبّ قرّر أن يعمل في الصحافة. هكذا انضمّ إلى مجلة آخر ساعة بناءً على طلب الصحفي الكبير مصطفى أمين، وبدأ صحفيًّا ينشر رسائل القراء بخمسة عشر جنيهًا في الشهر، كان ذلك في العام 1951.
 
تزوج حمدي قنديل ثلاث مرات، ورفيقة دربه منذ عام 92 هي الفنانة نجلاء فتحي، ولم ينجب أطفالاً. وكان يقول إنّ الأمر لا يشغله كثيرًا، أمّا النساء الثلاث اللواتي عبرن حياته، فكلهن جميلات في نظره، ولكل واحدة خصوصية أحبّها، وسنوات جميلة قضاها معها.
 
حياته المهنية لم تكن سهلة، ودائمًا ما كانت مليئة بالصعوبات، إلى درجة المنع والوقف. منذ اللحظة الأولى له في التليفزيون العربي - هكذا كان اسمه عند انطلاقه في يوليو 1960 - فلم تمر شهور قليلة على بدء الإرسال حتى طلب منه رئيس تحرير الأخبار، بهي الدين نصر، أن يقرأ لأول مرة نشرة أخبار التاسعة الرئيسية، ولما حاول التملُّص أبلغه أن هذه أوامر وزير الاعلام وقتها ورئيس التليفزيون الدكتور عبد القادر حاتم.
 
قال حاتم للمسؤولين وقتها: "خلّوا الجدع السوري ده يقرا لنا النشرة الليلة دي»، وضحك. كان عبد القادر حاتم يعرف العاملين واحدًا واحدًا، إذ لم يكن عدد المشتغلين في التليفزيون يزيد على 600 شخص، وعن هذه الواقعة يحكي الأستاذ حمدي قائلا: "كان الدكتور يظن أنني سوري، ربما لأن أحدًا أبلغه أننى كنت أعمل بالصحافة في سوريا قبل التحاقي بالتليفزيون. كان من المقرر أن يقرأ أنور المشري تلك النشرة، وكانت أوراقها بالفعل في يده عندما أبلغوه أن يتخلّى عنها، لم يغضب، طلب منّي أن أقرأ النشرة أمامه قبل أن أقرأها على الهواء حتى يطمئن لإلقائي".
 
عندما بدأ حمدي قنديل تقديم برنامج «أقوال الصحف» في سبتمبر 1961 لم يكن عمره تجاوز السادسة والعشرين، وتعرض للمنع والوقف وقتها، فالبرنامج قد توقف. بعد الحلقة الخامسة قال له رئيس تحرير الأخبار: «الوزير بيقول لك استريّح شوية». كانت هذه هي الشفرة وقتها للإعراب عن غضب السلطة، بعدها علم أن سبب الغضب هو أنه أورد خبرًا عن الرئيس عبد الناصر في نهاية البرنامج وليس في بدايته.
 
كان جريئًا - كعادته - ذهب إلى مكتب الرئيس في منشية البكري، وطلب مقابلة سامي شرف، سكرتير الرئيس للمعلومات، قال له: «يا سامي بك، أريد أن أعرف من الرئيس شخصيًّا إذا كان اعترض على إذاعة خبر عنه في نهاية البرنامج»، وحكى له الحكاية، ضحك سامي شرف وطلب منه الانتظار في استراحة مكتبه. بعد قليل ناداه ثانية، وقال: «الريس بيقول لك خد الجرايد وروح على الاستوديو بتاعك على طول من غير ما تكلّم حدّ».
 
أما حكايته مع كوكب الشرق أم كلثوم فقد حكاها لي. ففي العام 1962 طلب منه التليفزيون في اللحظات الأخيرة تقديم حفل نادي ضباط الجيش بالزمالك، مساء 26 يوليو، احتفالا بالذكرى السنوية لطرد الملك، وبتأميم القناة، بعدما تغيّب عن الحفل مُقدّمه الأصلي. عندما وصل، علم أن مهمّته ستقتصر على تقديم أم كلثوم.
 
يقول عن هذا: "وجدت أن الأمر لا يحتاج إلى عناء، وصعدت إلى خشبة المسرح، فوجدت أمامي على بُعد أمتار جمال عبد الناصر جالسًا فى الصدارة، ومن حوله أعضاء مجلس قيادة الثورة". انتابته رعشة خفيفة. لم يتمالك نفسه، لكنه بعد ثوانٍ من الصمت لم يجد سوى جملة واحدة نطق بها: «أيها السادة، إليكم أم كلثوم»، وغادر مسرعًا، فوجد أم كلثوم تعترض طريقه في طريقها إلى خشبة المسرح، فاستوقفته وقالت له: «ده كل اللي ربنا فتح بيه عليك؟».
 
طريق الأشواك بدأ مع برنامج "رئيس التحرير" في التليفزيون المصري، وكان أشهر برنامج على قناة عربية، ربما كان أشهر برنامج في تاريخ التليفزيون المصري، لكنه توقف بعدما استشعر النظام وقتها قوة معارضته، خاصة بعد هجومه الشديد على تخاذل وضعف الحكومات العربية في انتفاضة العام 2003، وهجومه الدائم على الكيان الصهيوني.. فهاجر إلى الإمارات ليقدم برنامج "قلم رصاص"، لكنه توقّف أيضًا، أو تم إيقافه لأسباب سياسية، وقبلها كان منعه من قناة دريم. وانتقل إلى قناة "الليبية" لمواصلة تقديم برنامجه، وبسببه تم تأميم القناة وإيقاف البرنامج.
 
الموقف الإنساني الذي حكاه حمدي قنديل هو قصة ارتباطه بالفنانة نجلاء فتحي، إذ روى الإعلامي الكبير تفاصيل تعرّفه على زوجته، التي فاجأته بطلبها الزواج منه، على عكس العادات والتقاليد المُتعارف عليها، فقد قابلها للمرة الأولى أثناء إجرائه حوارًا صحفيًّا معها في منزل شقيقتها بالدقي.
 
يقول حمدي قنديل إنه رغم خوفه من ألا يجد موضوعًا مُناسبًا يتحدّث فيه معها، إلا أن مخاوفه تلاشت بعدما لمس مدى تواضعها وبساطتها في ملابسها وتلقائيتها، فكانت لا تمتّ بصلة للصورة النمطية للنجمة السينمائية التي كانت في ذهنه، حسب وصفه، وحكى "قنديل" عن أول انطباعاته عنها، بأنها ليست شاطرة فقط، لكنها ذكية ومرحة وذات شخصية قوية، وستضفي على حياته بهجة لم يعرفها من قبل، كما أبهره نهجها اليساري، رغم أن الرئيس جمال عبد الناصر أمّم أرض والدها حسين بك فتحي، الذي كان من أعيان الفيوم.
 
وبعد تعدُّد اللقاءات بينهما، اتّصلت به نجلاء في أحد الأيام، وحكت له عن يومها في النادي، وأنها مارست رياضة المشي أكثر من اللازم لوجود موضوع مهم يشغل تفكيرها، وعندما سألها قنديل عن هذا الأمر المهم، فاجأته قائلة: "أنا هتجوّزك النهارده"، ومن شدّة توتره أخذ يُردِّد "عظيم عظيم" دون أن يدري ما الذي يقوله، ثم سألته نجلاء: "أليس معك بطاقة شخصية؟"، ورغم أنه لم يستخرج بطاقة شخصية في ذلك الوقت، طلبت منه نجلاء أن يحضر إلى منزلها في الخامسة بعد الظهر ومعه جواز السفر، ثم اختتمت حديثها بقولها: "موافق وإلا هترجع في كلامك؟"، فرد عليها بلا تردُّد: "موافق أكيد".
 
لم يُخف "قنديل" انبهاره بجرأتها في أسلوب عرض الزواج، لذلك سألها فور وصوله إلى المنزل: "ألم تُفكّرى في الحال الذي ستكونين عليه لو كنت ماطلت في القبول؟". فردّت عليه نجلاء: "فكّرت بالطبع، لكنك تعلم أننا لسنا في قصة غرام مشتعل، وكلانا لنا تجارب في الزواج من قبل، وما بيننا هو إعجاب شديد"، وتابعت: "لن أحزن كثيرًا عليك إذا رفضت، لأنك حينها لن تستحق ثقتي في رجاحة عقلك، وبالتالي لن تكون الزوج المناسب لي".
 
رغم روايته لتفاصيل زواجهما، إلا أن حمدي قنديل اعترف بأنه ظلم زوجته الفنانة المصرية نجلاء فتحي، ولم يوفها حقها بسرد دورها في حياته ضمن الكتاب، إذ قال في أحد لقاءاته التليفزيونية إنه لم يعط زوجته حقها، ولم يكشف عن الدور الكبير الذي صنعته في حياته ونجاحاته منذ زواجه منها، مشيرًا إلى أنه سيحاول أن ينصفها في كتاب جديد.
 
تاريخه الإعلامي اختلط بالسياسي أيضًا، فهو شاهد على الثورات العربية في مصر واليمن والعراق وسوريا والجزائر. رحم الله حمدي قنديل، الشاهد على العصر الحديث والمعاصر، منذ ثورة يوليو إلى ثورتي يناير ويونيو. انتصر في معارك كثيرة، ولم يهزمه المرض، لكن الموت قال كلمته الأخيرة، ولم يمهله أن يعيش معنا حياته الثالثة!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق