علوم مسرح الجريمة (1): سلطة القاضي الجنائي في تقدير أدلة الإثبات الحديثة

الجمعة، 15 فبراير 2019 02:00 م
علوم مسرح الجريمة (1): سلطة القاضي الجنائي في تقدير أدلة الإثبات الحديثة
محكمة - صورة أرشيفية
علاء رضوان

من المتعارف عليه أن نظرية الإثبات فى حقيقة الأمر هي الأساس الذي تقوم عليه قواعد الإجراءات الجنائية منذ لحظة وقوع الجريمة إلى حين صدور الحكم فيها من السلطة القضائية بموجب السلطات الممنوحة لها، والإثبات في المواد الجنائية هو كل ما يؤدي إلى إظهار الحقيقة، ولأجل الحكم على المتهم في المسائل الجنائية يجب ثبوت وقوع الجريمة في ذاتها، وأن المتهم هو المرتكب لها وبعبارة أخرى إقامة الدليل على وقوع الجريمة وعلى نسبتها إلى المتهم.   

مراحل الإثبات الجنائى

فى التقرير التالى «صوت الأمة» رصد سلطة القاضي في تقدير أدلة الاثبات الحديثة فى كشف هوية المتهمين وحقيقة الوقائع بإعتبار أن الإثبات في المواد الجنائية هو النتيجة التي تتحقق باستعمال وسائله وطرقه المختلفة للوصول إلى الدليل الذي يستعين به القاضي لاستخلاص حقيقة الوقائع المعروضة عليه لإعمال حكم القانون عليها، والإثبات الجنائي يمر بمراحل ثلاث – بحسب أستاذ القانون الجنائى والمحامى بالنقض أحمد الجنزورى :

- الأولى مرحلة الاستدلالات بجمع عناصر التحقيق والدعوى.

 -الثانية هي سلطة التحقيق الابتدائي، فإذا أسفر هذا التحقيق عن أدلة ترجح معها إدانة المتهم قدم إلى المحكمة.

 -الثالثة مرحلة المحاكمة وهي من أهم المراحل لأنها مرحلة اقتناع بثبوت التهمة مبني على اليقين لا الحدس والتخمين، إما ببراءة المتهم أو إدانته. 

1005946-scene-class-action

والإثبات الجنائي – وفقا لـ«الجنزورى» - قد طرأ عليه تطورات شاسعة بفضل الطفرة العلمية الهائلة في وسائل الإثبات والتي لم تكن معروفة من قبل، فهي طفرة قامت على نظريات وأصول علمية دقيقة، واستطاعت أن تزود القاضي الجنائي بأدلة قاطعة وحاسمة تربط أو تنفى العلاقة بين المتهم والجريمة، وأصبح القضاء يعول عليها كأدلة فنية يؤسس عليها الأحكام بالإدانة أو البراءة.  

أنواع الأدلة الجنائية

والأدلة الجنائية أنواع : منها ما هو دليل قولي كاعتراف المتهم أو شهادة الشهود، ومنها ما هو دليل عقلي كالقرائن والدلائل، ومنها الأدلة المادية التي يبقى لها خصوصيتها، وهي أدلة صامتة لا تكذب أو تتجمل ومن هنا جاءت أهمية الأدلة المادية والتعامل معها بالوسائل العلمية الحديثة – الكلام لـ«الجنزورى».

والأدلة العلمية تعتمد على الأصول والحقائق العلمية التي لم تكن معروفة في الأزمنة والعصور السابقة، وقد بدأت تحتل مركزها المناسب في مجال الإثبات الجنائي، وذلك بما تمثله من عناصر القوة وبما تتميز به من أصول الثبات والاستقرار والثقة في مصادرها العلمية، ومن هنا جاءت أهمية سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة العلمية لما لها من أهمية في الإثبات الجنائي الحديث.  

crime

أنظمة الإثبات الثلاثة

وسلطة القاضي في تقدير الأدلة لا تخرج عن إطار أنظمة الإثبات الثلاثة وهي: «نظام الأدلة القانونية، ونظام الإثبات المختلط، ونظام الأدلة المعنوية» وهذا الأخير تأخذ به أغلب التشريعات العربية.

وقد أخذ به القانون المصري، فنصت المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائي على أنه : «يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته»، كما أخذ به القانون اليمني؛ حيث نصت المادة 367 من قانون الإجراءات الجزائية بقوله: «يحكم القاضي في الدعوى بمقتضى العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته من خلال المحاكمات...»، كما أخذ به القانون الفرنسي حيث نصت المادة 427 من قانون الإجراءات على أن: «تثبت الجرائم جميع طرق الإثبات ،ويحكم القاضي تبعا لاقتناعه الخالص» - هكذا يقول «الجنزورى». 

أسباب الأخذ بمبدأ حرية الإثبات الجنائي

وهناك أسباب عديدة تبرر الأخذ بمبدأ حرية الإثبات الجنائي؛ منها ظهور الأدلة العلمية الحديثة التي كشف عنها العلم الحديث في إثبات الجريمة ونسبتها إلى المتهم ومثال تلك الأدلة : المستمدة من الطب الشرعي والتحاليل كالأدلة البيولوجية، والمستمدة من الأجهزة الإلكترونية والحاسبات الآلية كالأدلة المعلوماتية، وهذه الأدلة لاتقبل بطبيعتها إخضاع القاضي لأي قيود بشأنها، بل ينبغي أن يترك الأمر في تقديرها لمحض سلطة القاضي.   

Scene-de-crime

وقد تعددت تسميات سلطة القاضي في تقدير الأدلة، فالبعض يطلق عليها مبدأ الاقتناع الذاتي والبعض القناعة الوجدانية للقاضي، والبعض الآخر نظام الأدلة الأدبية وأحياناً النظام الحر للأدلة، ويقصد بكل هذه التعبيرات أن القاضي لا يتقيد بأي قيد أو شرط يفرض عليه، وإنما هو مقيد بضميره الذاتي البعيد عن الأهواء والأحاسيس الشخصية، حر في تقدير قيمة الأدلة المقدمة له من قبل الخصوم، ولا دخل لإرادة المشرع في فرض دليل أو تحديد قيمة الدليل، ومع ذلك ليست حرية القاضي في الاقتناع مطلقة، وإنما مقيدة بشروط صحة التسبيب وبضوابط معينة تراقبها جهة الطعن.

ويعرفها بعض الفقهاء بأنها تلك الحالة الذهنية والنفسية أو ذلك المظهر الذي يوضح وصول القاضي باقتناعه، لدرجة اليقين بحقيقة واقعة لم تحدث بصورة عامة، والسلطة التقديرية للقاضي هي التقدير الحر المسبب لعناصر الإثبات في الدعوى، وهي البديل لنظام الإثبات المقيد حيث يعين المشرع أدلة معينة لا يقضي بالإدانة إلا بناءً عليها. 

السلطة التقديرية للقاضي

كما تعددت محاولات تعريف موضوع السلطة التقديرية للقاضي ولكن هذه المحاولات كانت لها نقطة التقاء واحدة، باعتبار هذا المبدأ حالة ذهنية نابعة من ضمير القاضي النقي وتفكيره المنطقي الذي يكشف عن الحقيقة من خلال تقييمه للأدلة المطروحة في الدعوى وبناء الجزم واليقين على ما يقتنع به من الأدلة دون إلزامه بإصدار حكمه بناءً على دليل معين مقتنع به، وما يقتنع به من هذه الأدلة ورفض ما لا يقتنع به دون رقيب على ذلك، فالقاضي يبني يقينه على ضوء ما يمليه عليه ضميره وتفكيره المنطقي دون أدنى تحكم. 

20180728-جنايات-البصرة-تصدر-حكما-بالاعدام-على-ا-600x330ece6ff-image

وسوف نتناول هذا الموضوع في نقطتين: 

النقطة الأولى: الأدلة الحديثة وعلاقتها بالخصوصية، فالأدلة العلمية الحديثة تثير إحدى المشكلات التي تواجهها السياسية الجنائية المعاصرة وهي كيفية تحقيق التوازن بين المصالح المتعارضة وهي مصلحة المجتمع وضمان تطبيق القانون من ناحية وضمان الحريات الفردية من ناحية أخرى، فكما أن للأدلة العلمية إيجابيات وفوائد كتسهيل مهمة الكشف عن الحقيقة القضائية ، فإنها قد تعصف بحريات الأفراد وحقوقهم إذا لم يحسن استخدامها ،كانتهاك حرمة الحياة الخاصة للأفراد ومعرفة أسرارهم التي يكرهون أن يطلع عليها أحد، كالأسرار الجينية التي يمكن الحصول عليها من خلال الخريطة الجينية أو الجينوم البشري للإنسان، فما موقف المشرع الجنائي من الأبحاث والتجارب الجينية؟

ولابد من تناول مدى مشروعية استعمال الأجهزة الإلكترونية في التصنت على المكالمات التليفونية وتسجيل الأحاديث الشخصية للأفراد والتقاط الصور في مكان عام أو خاص، فهل لأجهزة التصنت والتصوير علاقة بانتهاك الحياة الخاصة للأفراد ؟ وما مدى سلطة القاضي في قبول أو رفض تلك الأدلة التي يمكن الحصول عليها من خلال الأجهزة الإلكترونية؟ كل هذه التساؤلات سوف أجيب عليها في الباب الأول من هذا البحث .

أما في النقطة الثانية : فسوف نتحدث عن تقدير القاضي لبعض الأدلة الحديثة التي قسمتها إلى نوعين :

 النوع الأول: الأدلة البيولوجية مثل البصمة الوراثية أو مايسمى بالحامض النووي DNA وبصمة الأصبع وغيرها، وسنتناول مدى حجيتها في الإثبات الجنائي ومدى سلطة القاضي في تقدير هذه الأدلة في العملية الإثباتية .

والنوع الثاني : الأدلة المعلوماتية التي يمكن الحصول عليها من خلال الحاسبات الآلية وشبكات الإنترنت كالمراقبة والتوقيع الإلكتروني وغسل الأموال، ونتكلم عن الشروط الواجب توافرها عند الأخذ بها كأدلة معلوماتية، ومدى تقدير القاضي لهذه المخرجات كأدلة إثبات في الدعاوى المنظورة أمامه.    

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق